1- الحقيقةُ أنّ طبيعَة الشّعرِ العربيّ تختلفُ عن طبيعةِ النّثرِ العربيّ اختلافاً كبيراً، والقطيعَةُ المعرفِيّة التي يتحدّثونَ عنها بين الشّعرِ “التّقليدي” والنّثرِ الحديثِ الذي يُحشَرُ في دائرَةِ الشّعرِ، قطيعةٌ وعَداءٌ مَعْرِفيّانِ ينتسبانِ إلى أصحابِهما الأصليين الذين أعلَنوا عَنْ هذه القَطيعَةِ وهذا العَداءِ في لُغاتِهِم وآدابِهِم.
أمّا الشّعرُ العربيّ فلا حاجةَ بِه إلى تَقْليد المُقاطِعينَ أو احتذائِهم.أمّا النّثرُ العربيّ فله طرُقُه ومناهجُه في الإيقاعِ قد تُشبِه أشعارَ غيرِ العربِ، وعلى الرّغمِ من ذلِك لم يُدْرَجْ ناثِرو العربيّة في عِدادِ الشّعَراءِ، في وقتٍ كان النّثرُ العربيّ أشعَرَ من شعرِ اليومِ ، لم يعدّوا النّاثرَ شاعِراً ولو مجازاً، ولم يُشبِّهوه بِه ولو احتمالاً ؛ لأنّ الذّوقَ العربيّ الأصيلَ لم يكنْ يخلطُ بينَ إيقاعِ النّثرِ ووزنِ الشّعرِ و لا يُدخلُ الأوّلَ في حيزِ الثّاني، و لا موسيقا ذاكَ في عَروضِ هذا، و لا سجْعَ ذاكَ في قافِيَةِ هذا، مهما يبلغ النثرُ من إيقاعٍ ساحرٍ، فلا يدخُلُ في الشّعرِ الأمثالُ على جَمالِها و لا الخُطَبُ على فَصاحتِها و لا المَقاماتُ على إيقاعِها و بَلاغتِها.
إيقاعُ النّثرِ يعتمدُ على جرسِ الألفاظِ و مخارِج الحُروفِ والأصواتِ و موازناتِ العباراتِ، أمّا إيقاعُ الشّعرِ فينشأ عن الوزن والقافِيَةِ، ومَدارُه على تناسُبِ الوَقعاتِ الصّوتيّة في أبعادٍ زمنيّةٍ متناسٍبَة.
2- هل جانَبَ العُلَماء الصّوابَ عندَما استشهَدوا بالشّعرِ أكثَرَ من استشهادهِم بالنثْر؟ لم يُجانبِ اللغويّونَ الصّوابَ وهم يحتجّونَ للقَواعدِ بالشّعرِ العربيّ الفَصيح؛ لأنّ الشّعراءَ جَرَوْا في التّعبيرِ، على مَذاهبِ العربِ في كَلامِها إلاّ ما كانَ من ضرائِرَ ارْتَكَبوها، فإنّهم راجَعوا بِها أصولاً مَهْجورَةً و لَم يبْتَدِعوا وجوهاً شاذّة ولم يُعرَفْ أنّ الطّبقاتِ الأولى من الشّعَراء الفُصَحاءِ الذين احتُجّ بشعْرِهمقد جَنَحَ بِهم الخَيالُ جُنوحاً حَتّى خَرَجوا عَن مذاهبِ العربِ في كَلامِها بِدَعْوى أنّهم يمارِسونَ إنشادَ الشّعرِ و لُغَة الشّعْر… ألَمْ يَقُلْ عبدُ الله بنُ عَبّاس رضيَ الله عنه، فيما نَقَلَه السيوطي في المُزهِر: «إذا سَألتُم عَن شيءٍ منْ غَريبِ القُرآن فالْتمِسوه في الشّعر، فإنّ الشعرَ ديوانُ العَربِ»؟[المزهِر في علوم اللّغة وأنواعِها، لجلال الدّين السيوطي، النوع الحادي والأربعون: معرفة آداب اللغوي].
3- عندَما تُثارُ مسألةُ الشّعرِ ، يَكادُ يدورُ كَلامُ النّاسِ اليومَ حولَ فكرةٍ واحدةٍ وهي إقصاءُ المَقاييس، والزّعمُ بأنّ الإنسانَ شاعرٌ بطبعِه، وأنّ الكلمةَ تحملُ بالقوّةِ شُحنةً شعريّةً، وأنّ قوامَ الشّعرِ تخييلٌ وتعبيرٌ جَميلٌ عن الذّاتِ وإفصاحٌ عن المشاعرِ الإنسانيّة، وما إلى ذلِك ممّا يَكادُ يستوي فيه النّاسُ غيرَ أنَّ الذي يَميزُ الشّعرَ من غيْرِه هو هذه المَقاييسُ الدّقيقةُ التي يُمكنُ الحديثُ عَنْها في إطارِ قَواعدِ الشّعرِ وفُنونِه و أقسامه، ولا يُصبحُ الشّاعرُ شاعراً إلاّ إذا امتازَ بالتّعبيرِ وبأداةِ التّعبيرِ عَلى السّواءِ، وأقصدُ بالأداةِ كلّ المَقاييسِ التي تفصلُ الشّاعرَ عن غيْرِه.غالباً ما تجدُ النّاسَ يعترِضونَ على القَواعدِ والمَقاييس و المَعاييرِ بالزّعمِ بأنّ الشّاعرَ حرّ طليقٌ لا ينبغي أن يتقيّدَ بقواعدَ ، وهو زعمٌ يركَبُ مطيّتَه كلّ عاجزٍ عن نظمِ الشّعرِ فَيَجْنَحُ في الكَلامِ جُنوحاً ويَصولُ ويَجولُ في كلّ شَيءٍ إلاّ في قولِ الشّعرِ لأنّه لَم يَقْوَ على الجمعِ بينَ الأداةِ وبين التّعبيرِ الشّعْرِيّ.