يعتبر الانفتاح على اللغات انفتاحا على حضارات العالم ، وثقافات الكون ، مع مد الجسور مع الغير سواء تعلق الأمر بعالم السياسة أو الأعمال و الاقتصاد والاستثمار أو التكنولوجيا ، لأن من يتقن اللغات باستطاعته إقناع المخاطبين والمتحاورين، ويتمكن من جلب المعرفة والخبرة والاستثمار.
كل لغة إنما هي نافذة على حضارة من الحضارات وموروث الانسانية والثقافات، وتمكن من التحاور والاستفادة من التجارب، ولما نتقن لغة من اللغات نطلع على حضارة أمتها وعلمها وأدبها ومعرفتها وتكنولوجياتها وتنظيماتها السياسية، بعيدا عما يمكن أن يدعيه البعض من أن تعلم اللغات وتدريس المواد سواء العلمية أو الأدبية بلغات غير اللغة الرسمية هو استمرار للاستعمار.
طبعا مع ملاحظة أن عدم إتقان الانسان للغة بلاده الرسمية منقصة كبيرة لا تغتفر اللغة اداة للتواصل، أداة لابرام صفقات تجارية ، أداة للتفاهم ، للاختراع ، ومد الجسور وتبادل الرأي ، واذا كانت قوة الصين وكوريا والهند واليابان وسنغافورة ليست محل جدال فإن هذه الدول المصنعة التي تمكنت من اكتساب العلم والمعرفةوأصبحت رائدة في عالم التكنولوجيا.
إنما استعملت اللغات الحية على رأسها الانجليزية دونما تفريط أو إهمال للغاتها الأصلية طبعا، وتلك مسألة بديهية لأن الشعوب تتشبت بهوياتها، وإذا كان هاجس الانسانية هو توفير العيش الكريم لبني البشر عن طريق التنمية الاقتصادية والعلمية والاجتماعية فإنه بغض النظر عن توفر البلدان على الثروات الطبيعية فانه يتم النضال من أجل تفادي الحروب والانفتاح على الآخر والتآزر والتآخي، ونسيان مآسي التشتت والتطاحن وويلات الحرب ومخلفاتها.
واذا كان التاريخ يسجل ازدهار الامم وتقهقرها، فإن من سره الزمن أمس قد ينقلب عليه في أزمان أخرى على حد تعبير الشاعر الأندلسي أبي البقاء الرندي، وإذا كان الازدهار قد سر بعض الدول والحضارات والحقب، فإن التغيرات الجذرية من قارة الى أخرى عبر القرون والأجيال و التحولات الاقتصادية والاجتماعية والمعرفية، مسألة ثابتة و تاريخ الانسانية يشهد على ازدهار أمم في حقب معينة، وتقهقر أخرى، الحضارة اليونانية القديمة مثلا لا علاقة لها بيونان العصر الحديث.
ومع ذلك فإن فكر الفلاسفة اليونانيين ألهم الفكر الانساني، لذلك ما دامت الحضارة هي موروث كوني وأن لغات العالم هي أداة للتواصل وموروث إنساني رغم الاختلاف، فان مسالة الانفتاح لا يمكنها أن تؤدي إلا إلى التآخي والتواصل وتبادل التجارب والإبداع الفكري والفني والتكنولوجي، خصوصا إذا علمنا أن العالم الرقمي واستعمال التكنولوجيا غزا العالم ولا يمكن أن نبقى معزولين عن تطور البلدان والشعوب ونتجاهل ما للغات حية من دور محوري في الكسب المعرفي والتواصل.
لذلك، لماذا نحاول ان نحرم أبناءنا وسياسيينا المستقبليين ورجال اعمالنا من هذه القيمة المضافة ونحن نعلم جيدا أنهم إذا توجهوا إلى الخارج أو ظلوا منغلقين على أنفسهم طبقا للتعصب و لأحادية لغوية ، فانه يستحيل عليهم التواصل والإقناع و تطوير الفكر العلمي والمعرفي وتحقيق ما تصبو إليه الشعوب من رفاهية وتحقيق العيش الكريم ، مع العلم أن اللغات المنصوص عليها دستوريا محفوظة الموقع وليست محل نقاش وأن اللغة العربية هي لغة القران وأن ديننا الاسلامي من ثوابت الأمة وليس لاي كان أن يهمشها أو يتخلى عنها ، بل من المخجل أن نعاين من لايتقن لغة البلاد في مؤسسات رسمية.
والحال أنه بإمكان أي كان أن يبذل مجهوذا من أجل تعلم اللغات المعتبرة رسمية بقوة الدستور. ولكن ليس هناك ما يمنع من تعلم اللغات الأجنبية الحية والانفتاح عليها، واستحضار ذكاء الشعوب الذين انفتحوا على لغات مكنتهم من تطوير القدرات و توفير العيش الكريم، خصوصا إذا عاينا ما نؤاخذ عليه الناشئة من تيه وأزمة هوياتية وفوضى الأفكار ورفض ثقافة التعدد، وركود و انغلاق وتقوقع وجهل مضر بالفرد ومحيطه، وانتقادات واهية، وصب الغضب على البشر والحجر والشجر واحتراف الاحتجاج، وتعصب بدل تقوية لحمة الوطن واستثمار الطاقات في المعارك النبيلة، وقد جاء في الخطاب الملكي السامي “الحل لن يكون عسكريا ولا ماليا بل الحل يكمن في شيء واحد هو : التربية ” .
* برلمانية سابقة – محامية