لا ، لم أكن أحلم يومها، ولم يكن ذلك هلوسة ولا هذيانا صادرين عني ، أؤكد لكم أنه كان حقيقة عشتها ذات صباح، وأنا في زيارة لمدافن المدينة ، حيث يرقد من داهمهم الموت ، هم من كانوا يحملون أيضا مثلنا في جوفهم رغبة جامحة للحياة، هي التي تفتح بسخاء باهض الثمن فوهات الجحيم. كان اليوم مشمسا، والمكان هادئ ، إلا من أصوات بعض الفقهة الذين اتخذوا لهم مجلسا قرب باب الجامع الذي توسط المقبرة ، وعيونهم على القادمين لزيارة أمواتهم ، كانوا يقرؤون ما تيسر من الذكر، في انتظار أن يطلب منهم قراءة بعض السورالقرٱنية على روح ميت هنا او هناك ، كذلك تجد أشخاصا يعرضون خدمة غرس نباتات مثل الريحان ذو الاصل الفردوسي، أو غيره من الزهور البرية، ليتبع ذلك برش الماء عليها، مع ملئ حفر صغيرة في أعلى القبربه، كي تشرب منها الطيور، وفي هذا صدقة على الميت تسعفه كي تخفف عنه ذنوبه هذا كانوا يرددونه وهم بصدد غسل القبر وتأمين جماليته.
ينتهي كل هذا بالدعاء له من طرف جميع من حضر . وثمة فئة أخرى ، من أعمار مختلفة تظل تنتظر بدورها توزيع الخبز والتنين الجاف وهما ما يجلبه الزوار معهم كي يتصدقوا به أيضا على الميت، فيكونا من نصيب المتسولين، الذين حملوا معهم أكياسا يملؤونها بهذه الصدقات على مر الايام. أما حفاروا القبور، فحركتهم ذائبة لا تنقطع ، إذ تجدهم يهيؤون طيلة الوقت حفرا جديدة في انتظار من استوفى زمن وجوده على هذه الارض وبات من الراقدين تحت التراب . بعد أن انتهت مراسيم الزيارة ، على يميني رمقت سيدة ترتدي لباسا أبيض، مما يعني أنها أرملة. كان الامر سيبدو عاديا ، لأن المقابر تمتلئ بهؤلاء النسوة، لكن، ما شدني إليها هو أنها كانت وحيدة ، تجلس على حافة قبر، وتتحدث إليه بعصبية وانفعال باديين، وتشير بين الفينة و الأخرى إلى اتجاه موضع الرأس، وكأنها تحاول بحركة يدها تلك ان تؤكد على ما تقوله.
كان مشهدا مثيرا للانتباه خصوصا،حين أخرجت من جيبها ورقة مطوية بيضاء، عملت على فتحها، ومددتها على ركبتيها، ثم بدأت تقرؤها بصوت أخد يعلو حتى أصبح بإمكاني سماع ما تتفوه به. كم عجبت للامر، فقد كانت تعاتب زوجها الميت وتقول ها أنت الآن مسجى أمامي، قل بالله عليك ،ل ماذا كنت تقهرني وترفض سماعي كلما توجهت بالحديث إليك ؟ لم كنت تنعتني بالجاهلة، التي تحتاج إلى أن تلتزم الصمت مادامت لا تفهم شيئا من أمور الدنيا ؟ كيف طاوعتك نفسك أن تغيب عن بيتك ، حيث أبناؤك وبناتك ، وحيث أنا، تتركنا عرضة للفقر والحاجة ، ما يزيد عن السنتين ، بعدأن أضعت مالك وعافيتك ؟ ألم تعد إلينا خاوي الوفاض، فقيرا، معدما؟ من كان يسهر على رعايتك؟ ألست أنا التي تخليت عني ؟ من كان يستدين من أجل جلب الدواء لك ؟ ألست أنا ، من كنت دائما تجرح كرامتي ؟ أين ذهبت بما إدخرناه طيلة سنين ؟ أين هم ندماؤك وعاهراتك؟ أين غابوا عنك حين أفلست؟، أو أنت طريح الفراش ؟ بالله قل لي، بماذا ستجيب ربك وأنت تلقاه ؟ بماذا سوف ستتحجج وهو يسألك عن من كنت مسؤولا عنهم، وتحت وصايتك ؟ خوفي أن لا تجد جوابا تهون به زلاتك ، وتطمس من خلاله ٱثار كبواتك؟.
وفجأة، قامت من على حافة القبر، خطت بضع خطوات ، كأنها بذلك تنوي الذهاب، لكنها عادت مرة أخرى، ووضعت يدها على الشاهد ،ساعتها لمحتني، أنا التي أنظر إليها في ذهول تام ، خاطبتني قائلة : إنه زوجي، في يوم جنازته، طلب مني بعض الحاضرين من جيراني أن أسامحه، فلم أفعل . قالت ذلك، وانصرفت. وأنا في طريق عودتي إلى بيتي كنت أفكر وأسأل نفسي، هل إمرأة المقبرة وهي تحدث زوجها الراحل ، كانت تظن أنه يسمعها؟ ..
الأكيد هو أنها أزالت عنها حملا ثقيلا.