بالرغم من حصول تنازلات ومراجعات سياسية ومذهبية لدى الهيئات الحزبية على مستوى العلاقة مع مطالب التغيير أو إصلاح النظام السياسي خلال مسلسل الصراع حول السلطة ومن أجلها ؛ فقد ظل النظام السياسي في شخص ممثله الدستوري مالكا لكل شيء بالقرار وحدول الأعمال الوطني ، وفي نفس الوقت غير مسؤول عن تداعيات قرار هذا الشيء ؛ فكانت النتيجة الغائية هي إبعاد النخب السياسية عن ممارسة الحكم ، وما ينتج عن ذلك من إخراج المواطنين من السياسة . وهو ما يعقد بالتالي عملية التحول السياسي ،حتى لا نقول يجهض مسلسل الانتقال الديمقراطي، فتهيمن إرادويا وقصديا ثقافة التيئيس والعزوف عن المشاركة السياسية ، من تعبير واقتراع . وإذا كانت السياسة ، في نظر الأغلبية الساحقة ، هي المشاركة في ممارسة النقد السياسي ومساءلة السياسة العمومية من خلال تدبير الشأن العمومي والمساهمة في تسطير الخريطة السياسية ؛ فإن ” الإيمان ” بأن الدين والسيادة الوطنية والأمن شؤون تتجاوز حدود السياسة العمومية ، باعتبارها شؤونا تنتمي إلى مجال السياسة العامة ، وهو مجال حكر ومحفوظ ، حسب الدستور ، لمجلس الوزراء برئاسة الملك ، مما يصعب مهام الحكومة بما يعنيه من تهديد لمكتسبات الديمقراطية التمثيلية المؤسسة – افتراضا – على الاقتراع والاستفتاء كتعبير عن إرادة الأمة . الشيء الذي يرجح حظوظ النظام الرئاسي على حساب النظام البرلماني المنشود ، هذا النظام الذي يفترض فيه أنه يؤشر على إرهاصات بناء ملكية برلمانية كتسوية توفيقية تقتضيها شروط استمرار نفس النظام الوراثي و لتعارضه مع الديمقراطية كغاية . ولأن الأمن هو السياسة كرديف ، وباعتبار ان القرار السياسي ، والمالي / الإقتصادي ، صناعة وقرار أمنيين ؛ فإن السياسة تحولت ، من حيث هي تدبير للشأن العمومي وحل للأزمات في العلاقة مع الاقتصاد السياسي والخصاص الاجتماعي ، تحولت إلى مجال محفوظ يلغي صلاحية تشاركية التفكير في تقرير المصير ، يلغي بالأحرى سؤال التمكين من الحق في التداول على السلطة ، ولو في صيغة تناوب توافقي مبني على تسوية مؤطرة بحدود وصلاحيات تنفيذية ، قاصرة عن إنعاش وحلحلة مطلب البناء الديموقراطي . فليس غريبا أن يركز النموذج التنموي على التنمية الاقتصادية العارية من البعد الاجتماعي كلبنة لبلوغ السقف الضروري لأي إصلاح سياسي ومؤسستي . فلم يعد الأمر مقتصرا على جعل الأمن مجالا محفوظا للملكية التنفيذية ، وإنما تم تأميم وتحفيظ السياسة أيضا ، وهي سردية أمنية مهيكلة لاستراتيجية إخراج الحرية والدمقراطية من السياسة ، إضافة إلى إخراج السياسي من السياسة ، وفي ذلك إجهاض لأي تحول في العقيدة الأمنية للنظام ، فهل يكفي إقرار المسؤولية الشخصية (غير المصلحية او المرفقية ) للأمنيين المرؤوسين أو الموظفين العموميين المكلفين بإنفاذ القانون وتدبير القوة العمومية ، أو إحالة صلاحية تدبير الحكامة الأمنية للمجلس الأعلى للأمن ( الذي لم ينصب بعد منذ المصادقة على دستور يوليوز 2011 ) وفق ما نص عليه الفصل 54 من الدستور ، وهل هذا يقنع بكفاية ذلك لإقرار ، فعلي و حقيقي ، لمبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ؟ خاصة في العلاقة مع ضمان وحماية الأمن القومي ، القيمي والهوياتي والسيادي ، والذي يستدعي توفيقا وتوافقا ديمقراطيين بين حقوق الإنسان وحقوق الأوطان ، بتقوية الجبهة الوطنية وتجميد التناقضات الداخلية التناحرية ، في ظل تصاعد طموح ورهان الدولة ( في العهد الجديد ) على امتلاك مقومات لعب دور إقليمي اساسي ، بناء على مقاربة جديدة ومغايرة لمقاربة عهد سنوات الرصاص ، تستند على تنافسية دولية وندية تقومان على أساس مقومات الاقتدار والاكتفاء الذاتي ، وتفك الارتباط مع عقدة الالحاقية والذيلية والتبعية لكافة خوارج الاقتصاد الرأسمالي والمذهب الوهابي ، بخلفية مالية أو غاية أمنية أو تعاقد ديني حتى ، تختلط فيها أوراق ضغط ” المساعدات والخبرات والمخابرات الأمنية والعسكرية والمالية ” . من هنا وجب التأكيد على أن الحق في الأمن ضد الخوف ، والحق في الأمن ضد الحاجة ، لا يمكن تصورهما خارج مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة ، وهذا لن يتأتى إلا داخل دولة المجتمع بديلا عن مجتمع الدولة ، و عن الدولة القوية و الاجتماعية الآمنة بديلا عن الدولة المخيفة الأمنية .
فكيف ننقذ وطننا من سلبيات العقيدة الأمنية التقليدانية ، والتي تروم تكريس أولوية حماية النظام فقط عوضا عن حماية الدولة والوطن والمواطنين اقترانا ، من زمن الفوضى واللادولة أو شبح ما بعد الدولة ؟
وكيف ندعم طموح الندية والقدرة التنافسية لدى الدولة ، وتحرير النظام من عقدة السخرة الأمنية كدركي للمنطقة وجبرية الوساطة المركنتيلية الإذعانية ككمبرادور وجمركي اقتصاد الحدود ، والذي يعتبر رهانا حقيقيا لمهندسي مشروع الشرق الأوسط الكبير ، المهدد لوطننا وامتدادنا الجغرافي والتاريخي ولاستثنائنا الثقافي ، بفزاعة التقسيم والتجزئة والإلحاقية ، فقد يُحوَّل الوطن رهينة للإملاءات أو منصة استراتيجية داعمة للمخططات التصفوية سالفه ؟ ليتولد عن ذلك سؤال الكلفة المادية والحقوقية / الإنسانية والسياسية ، والتي من شأنها استغلال هشاشة البنيات الدولتية من أجل إسقاط الهياكل المؤسستية ، والمعتبرة ، تمثلا ، انها ذات تاريخ عريق في صيغة أمة تعايشت فيها جميع الأنماط الانتاجية والسياسية مع هيمنة التقليدانية جوهريا ، وسيطرة الحداثة الاقتصادية مظهريا .
*رئيس المركز المغربي للدمقراطية والأمن