ـ بمناسبة اليوم العالمي لحرية الصحافة ـ
في اليوم العالمي لحرية الصحافة، هل يوجد أحرار يزاولون بالضرورة مهنة المتاعب؟ ما معنى أن تكون الصحافة مهنة المتاعب؟ هل تحققت الحرية في محترف الصحافة قبل الامتهان؟ الحرية والمهنية، أية علاقة؟ هل يوجد إعلام حرّ حتى نتحدث عن حرية الصحافة؟ أي ثورة مأمولة لقطاع كان في أزمنته الذهبية يأوي حرّاس الكلمة الطيبة، ليصبح قطاعا فوضويا يتسع لصحافة المافيا والتشنيع وقمع الحرية برمّتها؟
نستقبل هذه السنة اليوم العالمي للصحافة تحت طائلة الإبادة الجماعية، وتدفق الشارع الغربي في احتجاجات طلابية على جريمة الحرب، في سياق ابتلع فيه النظام الدولي لسانه، فلا صوت إلاّ صوت المغالطة. وكان للإعلام دور مزدوج، قليل منه واصل نضاله من أجل نقل الصورة والحقيقة، وقسم منه اصطف إلى جانب الإمبريالية ومشاريعها، وقسم آثر الصمت، وقسم يلعب بين النقيضين.
الحرية ليست قضية أرقام وبيانات، ليست اصطفافا من داخل الإعلام وصناعة الاستثناء وازدواجية الموقف. خدعة الاعلام الوظيفي لم تعد تخفى على أحد، لا وجود إلاّ للعبث بالحقيقة. ومع تطور المجال السيبراني ظهرت ظواهر مرعبة في الإرهاب والتضليل الإعلامي، لأنّ الإمبريالية نفسها بات لها إعلامها، وللإرهاب إعلامه، وللتّفاهة إعلامها.
الإعلامي وحده يملك أن يوقف الإعلام المضلل. المتاعب اليوم ليس ضحيتها الاعلام المضلل، بل هو أداة خلق المتاعب للأحرار. الإعلام منخرط في التشهير، في قلب الحقائق. فإذا لم تحمِ الصحافة نفسها من هذا الاختراق، فمن يحميها إذن؟ فمن الصحافي ضحية المتاعب إلى الصحافي صانع المتاعب، الصحافي خادم الإمبريالية والفاشيست،تلكهي المسألة.
تأخذ المهنية طابعا تضليليا، تنتهي إلى تكريس مفهوم عن المهنية بحسب الإطار المهيمن على الحقيقة. أحيانا يحصل تواطؤ موضوعي تاريخي بين النقيضين، وهنا أحب أن أتوقّف فلسفيا أمام إبيستيمولوجيا اجتماع الأمر والنهي في إطار الحسابات الانتهازية.
ساهمت الأيديولوجيا في سوء فهم منابع ومآلات الدياليكتيك. لقد أصبح الدياليكتيك فزّاعة تتوسل بمفارقة اجتماع الأمر والنهي في المبادئ، وهي خدعة إبستيمولوجية. إنّ فكرة التناقض هي المحرك الأساسي لتطوّر الأطروحة باتجاه احتواء ما تستبعده في شروط سوسيو-تاريخية معينة. نقطة الصفر التي تصطدم فيها الأطروحة بنقيضها ليحصل التركيب. هذا الأخير مؤلم لحراس الأطروحة، ولكنه أيضا غير مستَوْعَب بالنسبة لمن يقع عليهم التركيب على حين غرّة من حساب المصالح.
يحصل في التاريخ ، كما يحصل اليوم، أن تتواطأ الأطروحة مع نقيضها في حساب المصلحة، تدفع الانتهازية باتجاه تأخير تولّد التركيب، وعرقة الدياليكتيك، حين يصبح التركيب متجاوزا لكليهما. فحراس الأطروحة المجردة وحراس نقيضها المجرد يزعجهم التركيب، فتتوحد مصالحهم وأدواتهم وتمتد بينهم الجسور، وهذا ما أسميه عنوة بـ: أزمة الدياليكتيك، أو انتحار التركيب بين يدي الأطروحة ونقيضها. يتآمر النقيضان لعرقلة التركيب الخلاّق. يمكن تطبيق هذا المنظور على الأحزاب، على السياسة، على الاقتصاد، على الإعلام أيضا.
مؤشّرات هذه الأزمة تظهر في توحّد العناوين والشعارات والمهام والوظيفة بين النقيضين. انحلال الدياليكتيك بتواطؤ النقيضين، حيث تنتهي شروط التناقض، ويصبح هناك تكامل تاريخي مفارق بينهما، فيعتقد الناظر المأخوذ ببقايا ظواهر النقيضين أنهما كذلك، وما هما كذلك، لكن بقايا صور، مع اضمحلال الجوهر. إنّ الزيف الأيديولوجي أحيانا هو نتاج هذا التكامل المخاتل بين الأطروحة ونقيضها.
لقد تجاوز الأمر الرقابة الخارجية والرقابة الداخلية، حين تمّ تسليع الإعلام، وحين تفجّرت الانتهازية داخل المؤسسة. فالإعلام مساهم في ولادة الزّيف وابتكار غرائب الأشياء، وتعزيز التكرار، واستغفال المتلقّي. من هي المؤسسة الإعلامية التي تُخلص للقضية من دون حسابات صغيرة؟
ليس هناك أزمة حرية تعبير، بل هناك أزمة حرية شاملة، بينما الإعلام اليوم مشكلته وتحديه الأكبر هو التآمر على الصحافة بالصحافة في الصحافة. مشكلة الإعلام كوظيفة لسحق الحقيقة. اليوم التّافهون وحدهم يمارسون حرية الخطاب، وفرصهم وحصصهم فيه أقوى من أي وقت مضى. لا شيء أخطر من التّفاهة، فهي أخطر حتى من الاستبداد العاري والصمت. هناك ما هو أهم من حرية التعبير، هو حقيقة التعبير، هو محتوى التعبير.