د. مصطفى غلمان*
هل هي صدفة، أن يتراجع المغرب عن اعتماد منظومة الباشلور، الذي صرفت على قيامته القيصرية ميزانية ضخمة، من أجل وقوفه على رجليه، شهورا عديدة، واجتماعات وتوصيات وأوراق وأمدة لا حصر لها؟
لقد صادقت اللجنة الوطنية لتنسيق التعليم العالي في 21 فبراير 2021 على دفتر الضوابط البيداغوجية الخاص بسلك البكالوريوس/الباشلور، الذي يتضمن مقترح وحدات لجذوع مشتركة، وملفات وصفية خاصة بوحدات في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، ووحدات في المهارات، والكفايات الحياتية والذاتية، ووحدات الانفتاح، قرر وزير التعليم العالي انطلاقته خلال هذا الدخول الجامعي، ويتحصل الطالب خلاله على الشهادة بعد 4 سنوات من الدراسة.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد. بل كانت الاجتماعات الماراطونية التي عقدت لأجل تنزيله، أكثر من جلسات البرلمان، الذي لم يناقشه إلا تحت الحاجة السياسية وملحاحيتها الظرفية، وبمجرد خروجه من القبة صار من حكايات ألف ليلة وليلة؟
الكل يتذكر السرعة التي نفذت فيها مذكرات وزارية وأخرى جامعية، وتوصيات لرؤساء الجامعات، باعتماد المنظومة الجديدة، رهانا استراتيجيا لتطوير عطاءات التعلم الجامعي وقياساته المتاخمة لجودة إيزو الدولية.
وماذا بعد؟
كان خبراء، قد نصحوا وزارة التعليم العالي، أيام الوزير المنتدب إدريس أوعويشة،، بالتراجع عن المشروع، لأنه سيولد فاشلا.
وحسبما أورد خبير في مضمون رسالة وجهها للوزير المعني، فإن نظام الباشلور يقوم على آليات وحوافز وأنساق، لا نستطيع مجاراتها راهنا، بحكم عدم جهوزيتنا لاستقبالها. وعدد في هذا الصدد المسالك الكبرى التي يستوجبها تطبيق الباشلور، من بينها، على وجه الخصوص، التمييز بين التعليم الحضوري، والتعليم الإلكتروني، والتعلم عن بعد. وحرية المتعلم في اختيار مسار تكوينه اعتمادًا على مهاراته ومعارفه المحصل عليها قبلًا. و أفواج المتعلمين لا تتعدى 30 متعلما. و استخدام برمجيات دقيقة تتابع المتعلم في مساره التكويني في تفاعل مستمر بينه وبين الأستاذ وبين الإداري. و إجبارية متابعة تكوينات المهارات والانفتاح ليس في شكلها ومضمونها الابتدائي. وتوفير كل الشروط والظروف للمتعلم الذي حصل له تعثر في إحدى المواد أو الوحدات خلال فترة الصيف قصد استدراك ما تعثر فيه. و تنظيم لقاءات بين المتعلمين والأساتذة أسبوعيًا. و اعتبار الشعبة هي المحور الأساس لتكوين وتعلم المتعلم في كل المراحل، و ضرورة تواجد الأستاذ الباحث يوميا بمكتبه الذي تتوفر فيه كل شروط العمل.
فهل يستطيع مشروع الباشلور المغربي أن يتحدى كل هذه القياسات وينتحر على عتبات قيامته، التي ستتكسر قرونها على صخرة الإكراهات والنواقص، كما العادة دائما في حدود تقييمنا للمشاريع التي نستهلك فيها الكلام الكثير والتخمين المراوغ للحقائق، وتبدير الجهد والمال والزمن؟
ماذا وقع الآن؟
وزير التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار الجديد، يتراجع عن تطبيق منظومة الباشلور، على اعتبار عدم شرعيته القانونية، وأن “الإصلاح البيداغوجي الشامل يشكل القاعدة الصلبة لتطوير منظومة التعليم العالي والرقي بجودتها ومردوديتها”، حسب تعبير وزير القطاع عبد اللطيف الميراوي، مع العلم أن الوزارة كانت قد أشارت، في إطار تطبيق نظام البكالوريوس، إلى إعادة النظر في الجدولة الزمنية لتنزيل هذا النظام.
ومع أن الميراوي قطع الشك باليقين، وقال في إحدى تصريحاته الصحفية، بالمباشر ودون لف أو دوران، “لن يتم اعتماد نظام البكالوريوس في الجامعات، لأن تطبيق هذا النظام اليوم، غير قانوني”، مؤكدا على أنه “إلى حدود اليوم، ليس هناك قانون لشرعنة تطبيق هذا النظام بالجامعات المغربية، وبالتالي فتطبيقه غير قانوني”، و “سيتم الاستمرار في اعتماد نظام -الإجازة والماستر والدكتوراه- على اعتبار أنه النظام المعتمد في التعليم العالي بعدد من الدول الإفريقية والأوروبية، والمغرب هو حلقة الوصل بين الطرفين” وفق ذات المتحدث. فإن السؤال الكبير الذي يتجاوز هذا المنطق، هو : كيف يمكن الحسم في مدى ارتباط منظومة الباشلور من عدمه، بالموقف السياسي للشريك الاستراتيجي فرنسا، في كل القضايا المصيرية ذات الأبعاد الجيواستراتيجية والسياسية؟
ففي خلال عامين تقريبا، كان شد الحبل متواصلا وغامضا بين المملكة ومستعمرها القديم؟
تتحدث الصحف الفرنسية، على وجه الخصوص بوجود توتر مطرد بين البلدين، وتحت عنوان لافت “شعرة معاوية بين باريس والمغاربة” كتبت فرانس 24 أنه “رغم أن فرنسا أُجبرت على الخروج من مستعمراتها العربية بشمال أفريقيا في الستينيات، فإن العلاقة استمرَّت بين الطرفين لأسباب شتى، مثل المصالح السياسية والاقتصادية المتبادلة، وكذلك الأثر الثقافي الفرنسي الذي تركته سنوات الاستعمار الطويلة. وقد حاولت فرنسا الإبقاء على مسافات آمنة من الأنظمة السياسية التي تولَّت الحكم بعد نهاية الاستعمار، وأصرَّت أحيانا على تجنُّب مشكلات من شأنها التسبُّب في توتر العلاقات ، وإن فرضت الضرورة التاريخية وقوع خلافات في عدد من القضايا”.
لكن الأخطر في كل هذا وذاك، أن تتعلق فرنسا، بأهداب نفوذها اللغوي الهوياتي، بالضغط أحيانا وبالتزلف مرات، وبالمراوغة والاتهام أحيانا، لتحيل إلى مدى اهتمامها المخيف، في أن تكون الفرنكوفونية ضفة نحو امتلاك أسرار علاقاتها بمستعمراتها السابقة؟
وخلال الشهور الماضية، شاهدنا كيف تتمسك باريس بنفوذها السياسي في بلدان تعتبرها جسرا لديمومتها اللغوية والثقافية والاقتصادية أيضا، كما هو الحال بالنسبة للمغرب، الذي ظل مهيمنا عليه، تحت قيود غير معلنة، تستعملها فرنسا للحؤول دون خروج المملكة عن الصف.
وعندما هدد المغرب بإعادة النظر في كل العلاقات التي لا تستوعب الظرفية القصوى التي يعيشها، ارتباطا مع قيمة وإدارة ملف الصحراء المغربية، انتفضت باريس، وأدارت بخبث وقلة أدب ملفات تشعل بها نيران الغيرة والحسد والوثوقية الزائدة، كما حصل بالنسبة لملفات “بيغاسوس” و”حقوق الإنسان في الصحراء المغربية” و”الدعم المالي” …إلخ.
عندما تعود طفرة الفرانكوفونية، في هذه الظرفية الصعبة والمرتبكة، إلى الواجهة، ويعلن توقيف مشروع تنزيل منظومة الباشلور، الذي يعتمد في منهاجيته وتقويماته ومراحل تنفيذه على الهوية الإنجليزية. وعندما يعلن رسميا عن انطلاق أشغال الدورة التاسعة والخمسين لمؤتمر وزراء التربية للدول والحكومات الناطقة بالفرنسية أمس بالرباط، تحت شعار “اللغة الأم ولغة التدريس : أية استراتيجيات لتسهيل التعلم الأولي والنجاح الدراسي والتعايش في القرن الحادي والعشرين”، والذي سيناقش رهانات التربية والتعليم الفرنكوفوني، واعتماد قرارات كفيلة بضمان سير عمل هذه المؤسسة، فاعلم بأن الوحش الفرنسي يستثمر في كل شيء، دون أن يضيع عليه الإبقاء القوي والشوفيني على وضعية مستعمراته السابقة، كما كان عليه الحال، دون ترك فرصة العيش اليوطوبي للدول إياها في أوهام الاستقلالية والسيادة والصوت المسموع؟
والأيام بيننا.
* مدير ورئيس تحرير KECHPRESSE.COM