د مصـطَـــفَى غَـــلْمَــان
“إذا كانت الحرب تقوم على قضايا معينة، فيجب أن تكون هذه القضايا بالضرورة قضايا عادلة. فلا حرب عادلة من دون قضية عادلة” ـ ديفيد فيشر ـ
1 ـ كسٌر العام الميلادي الجاري الذي نودعه بعد أيام قليلة، جدل الاحتيال الأخلاقي والسياسي، الذي يبتدعه الغرب، وينافح عنه بكل الوسائل الممكنة وغير الممكنة. وصار الاختزال النمطي للتدجين بالأساليب الادعائية، مجرد قشرة رقيقة، تجتزؤها فراغات قيمية وإنسانية، سرعان ما ترعوي وسط ركام فظيع من التخرصات التاريخية المليئة بالندوب والآلام والقذارات الممارسة خلال أحقاب وعقود.
فالغرب الديمقراطي، المتفاخر بإنجازات الحداثة والعولمة والتكونولوجيات العالية والحروب السيبرانية المتسارعة، المجاهر بسمو النظام العالمي لحقوق الإنسان والحيوان، والمناصر لقضايا العدالة والسلام والمساواة، هو نفسه، المستعمر القديم، المهيمن على مقدرات الشعوب المستضعفة، المستنزف لثروات بلدانها الثالثية، المستبد بالحكم الأممي المصيخ إلى قالب الفيتو الظالم.. لا ينفعل مع نهضته الفلسفية والعمرانية، في أقرب تصوراتها ومرجعياتها. فقد افتقد روح الأخلاق الأرسطية المنزوعة، المرتبطة بالسعادة الإنسانية، غاية الوجود والعقل والتسامح. بل إنه هدم قيم كانط، المرتكزة على الواجب الأخلاقي والمثالية الإنسية المتبعة للعقل والوجدان.
خلال عقدين من الزمن، ارتكزت بروبجندا الغرب الأخلاقي، على الترويج الإعلامي للأخطار المحدقة بالعالم، على سبيل مواجهة التطرف الديني، ومجابهة التيارات الإسلامية المتحالفة مع المشاريع السياسية المشبوهة، وبرامجها لتزييف حقيقة “الإسلام” و”المسلمين”، فكانت الأحداث الكبرى التي اهتز لها ضمير العالم، هجمات 11 سبتمبر 2001 وما أعقبها من الحروب الإبادية والتخريبية، في العراق وأفعانستان. ثم بزوغ نظرية الربيع العربي عام 2011، التي صارت وبالا وشنارا مأفونا على البلدان العربية، في تونس ومصر واليمن وسوريا وليبيا.
صار لزاما علينا، أن نعيد تقييم سؤال الغرب والإسلام، أو في الحد الأدنى، إثارة الاستفهام السيروري المتصل ب: “ماذا يريد منا الغرب؟ أو لماذا يكرهوننا؟”، والذي يؤسس في العمق، لمحاولة استجلاء عناصر التشكيل الحضاري الإسلامي المتجاور مع التشكيل الحضاري الغربي (المسيحي)، وعلاقة ذلك بالتحريض الصهيوني واندغامه في السياسة والاقتصاد الموجهين؟.
هل ثمة ما يحيل إلى هذا التشاكل بين عقيدتين أو منظومتين أخلاقيتين متباعدتين، تؤثثان حقولا تاريخية ضاربة في القدم، من البغضاء والتنافر والعداء والقطائع؟
لقد أفرزت المساحة الثقافية والهوياتية للأحداث المترابطة، في سياقاتها المتشعبة، نوعا من التصادم في إنتاج جبال من المشاكل وما تفرزه من عراقيل وإكراهات، لم تكن لتحجب مستوى القلق المرتفع بين الطرفين، وتجاذبات المصالح السياسية بينهما، لدرجة الإسفاف وضعف القابلية، وتمكين توجيه طفرة التبادل وتصحيح المسار وتنظيم العقد السياسي وتخفيف حدة التوتر وتقبل وجهات النظر وترسيخ مبادئ السلوك الحضاري والتفاهم والاحترام المتبادل. ما أضحى يغلب على واقع التباس غامض ومناكف للواقعية والنظرية الأممية القائمة على “السيادة” و”الهوية الوطنية” و”الانتصار للقيم الكونية”، من جهة كون الغرب، يزجي بفوقيته وأنانيته وانتقائيته واستغلاله، بل وانتقامه وغصبه للحقوق؟.
لم تكن سنة 2023، سوى نافذة لفرز هذا التوجه. وفيها ظهر للعيان، كيف يمكن للغرب أن يعود لسابق عهده، وأن ينقاد من قبل منظومته لتأكيد تسامي “الاستراتيجية الاستعمارية”، و”الخيار الحربي” على كل المفارقات السلوكية والأخلاقية المغايرة.
وعلى الرغم من أن “التاريخ يعيد نفسه”، كما يقال، فإن الحروب اللاأخلاقية للمثالية الغربية “الأمريكية”، منذ غزو خليج الخنازير عام 1961، وغرينادا 1983، وبنما 1989، وحرب الخليج الثانية 1990، وحرب العراق 2003، وقبل ذلك كله حرب الفلبين ومورو 1899/ 1913، وفيتنام 1955/1975، ثم أفغانستان 2001/2021، أزاحت القناع عن الوجه الحقيقي لتمثال الحرية المصطنع، وأعادت صياغة مفاهيم “الغرب الحداثي الحقوقي” ، وأبصرت الفوارق السياسية والمجالية والثقافية للخلفية الإيديولوجية والبراغماتية التي يرتديها مديرو العمليات في الغرف الموجهة، بلبوسات متعددة، منها ما هو تنموي، ونسائي وبيئي ومالي وشبابي ..إلخ.
لقد تحدث بعض أبناء هذا الغرب، في الكثير من المحطات النقدية المتفردة، عن أزمة الغرب الأخلاقية، وانتقالها إلى “الهمجية” و”الإسراف في العداوة”، والتأليب الميؤوس. فكان من بعض هذه الأمثلة، ما ينصف ويرد الصاع، لدرجة أن أحدهم وهو عالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران، استعمل أداة “أزمة الغرب” لنقد الحداثة وما تشكله من تناقضات وتأثيرات سلبية على الفكر والحياة، ليستقوي بعناصر أسئلته الحارة والمؤلمة، كسؤاله عن:”هل نسير نحو الهاوية؟” و”الأزمة التي تتخبط فيها حضارتنا” و”عنف العالم” و”الأزمة الكوكبية للحضارة الراهنة” و”دوامة الحاضر” و”أزمة الحداثة”؟.”
لكن قسوة الغرب ونكوصيته، فاقت كل تصور ونظر، قبل أن تغادرنا سنة 2023 الدموية والعصية على التأويل. فقد أعمت سلطة الغرب أخلاقية المنظمة الأممية، وعرت كل ما تبقى من أقنعته الخفاشية، بعد أن استوعبت قناعاته المشؤومة، الفاشستية الصهيونية في أيشع صورها. حيث انقضت الأخيرة بحلف شيطاني مع “الغرب” بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، لإبادة غزة المحاصرة المحتلة، وتدميرها وتهجير ما تبقى من ساكنتها …
تكشفت نوايا الغرب بشكل لا يدعو للشك، بعد أن فشلت المنظومة الدولية، حتى في أبسط قراراتها لوقف إطلاق النار وإبادة الشعب الغزاوي وإدخال المساعدات الإنسانية للقطاع، وإيقاف تدمير المستشفيات والمدارس والمساجد والكنائس والخدمات الإنسانية …
تأكد كذب الغرب واحتياله على النظام العالمي، وزيف ادعاءاته بالانتماء لقيم الحداثة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والمساواة بين البشر و….
لقد جأر الغرب بما لم يكسبه أملا في إعادة تصحيح صورته، التي أدغمت بين الاحتلال والقتل والعدوان، إلى كسر الشأفة وإبطال القوة والجبر على الخنوع والخضوع. فصار هذا الغرب، شوكة في حلق، وطغمة في نحر، ونصبا في قعر.
لقد باتت “سياسات الغرب غير مستقرة، وهي إلى ذلك مترددة ومتأرجحة في تعبير بليغ عن الأزمة البنيوية التي تعتري الغرب”، كما يذهب إلى ذلك حسن أوريد في “أفول الغرب”، لكن هذه السياسة لم تكن محجوبة أو غائبة، عن أنظار أصحاب التفكير والاجتماع، بل إنها تتمترس في سياق تأويل براديجم التغيير في صلب مجتمعاتها ومكوناتها الثقافية، التي تشكل إحدى أهم خصوصيات ديمقراطيتها النخبوية، وهو ما يظهر جليا في رفض الشارع الغربي، بشكل عام، لسياسات إداراته وتناقضاتها الصارخة. ولنا في مثال غزة أبلغ نموذج لرفض الاحتلال والعدوان والإبادة والظلم.