صدر حديثا للباحث الدكتور محمد الدرويش كتاب “إبستمولوجيا النظر اللغوي : بعض قضايا النمذجة و التمثيل” ، يتناول قضايا النظر من زوايا نظر متعددة من خلال الابحاث التي تناولت مجالات العلوم الحقة من فزياء و كيمياء و رياضيات وعلوم إنسانية من نحو وغيره من اأحاث لغوية، وهو ما يشير اليه المؤلف في مقدمة الكتاب إذ يقول :
” يستخدم الباحث في العلوم الإنسانية، والاجتماعية، وعلوم الأرض، والفيزياء، والكيمياء، وغيرها من العلوم، لغة ذات مقدمات نظرية، وتصورية، وتمثيلية، تقوم على التجانس بين مكونات الإطار النظري الذي تستعمل فيه. ومهمة هاته اللغة هي الوصف والتحليل والتفسير لمكونات موضوع الدراسة بمفاهيم نظرية تصورية موضوعة وضعاً، قائمة على التجانس بين المقدمات والنتائج . وللغة النظرية حدود نذكر منها:
ـ تناهي مكونات الوصف والتفسير.
ـ جواز بناء جهاز لغوي تصوري وصفي تفسيري لجهاز تصوري تفسيري آخر. كونها لغة مصنوعة صنعاً نظريا ليس لها صلة بالواقع المادي . والناظر في تاريخ الفكر البشري يلحظ أن الباحثين لم يهدأ لهم البال في أمور البحث عن أجوبة لأسئلة انطولوجية وجودية تطرح في كل عصر بأخلاقه الكتابية. وهوأمر لم تخل منه الثقافات سواء العربية منها أم غير العربية. وبناء عليه، نجدهم ) أي الباحثين ( ألفوا وأبدعوا في كل الميادين المعرفية؛ حيث عملوا على السعي لإتمام نواقص كتابات سابقيهم، أوشرح ما استغلق على الدارسين في كتابات سبقتهم أوعاصرتهم، أو اختصار ما طال من أبحاث، أو تصحيح ما ع ُّدوه خطأ عند أصحابه، أوطرح أجوبة عن أسئلة لم يجب عنها في نظرهم.
ونعتقد أن النظر وإعادة النظر في ثنائية الفكر والعالمين، والعلاقة أو العلائق الرابطة بينهما، أمر واكب ويواكب وسيواكب الكون من جهة وجوده، وتاريخه، ومستقبله. فكل أمر ينقسم إلى أقسام كثيرة، ومتعددة من جهات مختلفة. فقد اختلف – مثلا – النظار في قضية ثنائية القديم والحديث، وتفرقوا قبائل وشيعا وفرقا. والحال أن ما هو قديم اليوم، كان حديثاً بالأمس، وما هو حديث اليوم فسيصبح قديماً غداً، لأن لكل عصر متطلباتِه وحاجياته؛ كما اختلفوا في قضايا أخرى من نحومسألة الخلق والذات والكلام والتطور والمآل وغيرها من القضايا التي شكلت على الدوام مواضيع فكر ومسائل خلافية بامتياز. مما جعل التطور العلمي والمعرفي جوابا متجددا عن أسئلة وجودية عامة وخاصة يفرضها الزمن الذي يعيش فيه هذا المفكر أو ذاك، مهما تعددت خلفياته النظرية أومقدمات نظريته في فروع أبحاثه .
إن الثنائيات الفكرية – حسب اعتقادنا – التي تطرح اليوم، كانت حاضرة دائماً في انشغالات وهموم المفكرين القدماء، وستظل حاضرة في أبحاث من سيأتي غداً، وهذه طبيعة الفكر البشري وعلاقاته بالنظر، لذلك نقول، إن أي طرح نظري في أي مجال، وفي أي وقت ومكان، هوأمر نسبي غير مطلق.
لقدسجل تاريخ العلوم عدةوقفات مراجعة، وزيادًة،ونقصاناً، وتعديلاً، وشرحاً، وماإلى ذلك من الوقفات. ويمكن َعد ذلك أمرا عاديا ومقبولا في تاريخ الفكر البشري، إذ من الضروري النظر وإعادة النظر في آليات التفسير والتأويل داخل النظريات المرصودة للعالمين . ومن ثم، وجب تجديد النظر في آليات البناء الفكري، كلما استوجب الأمر ذلك في كل المجالات النظرية . وهكذا، اتجه مجموعة من المفكرين عبر تاريخ الفكر الإنساني إلى النظر وإعادة النظر في قضايا العالمين تجميعا، ورصدا، وتحليلاً، وتفسيرا، وتأويلاً. وهم بذلك سعوا إلى الإسهام في تجديد الفكر الانساني، والرغبة في تعميق المعرفة بحقيقة الكون . وفي المقابل، هناك من أسهم فقط، في إعادة إنتاج ما تم إنتاجه بإطاره النظري ونموذجه التصوري، وآليات تحليله، ومصطلحاته، ونتائجه التي لم يتم الإفادة منها خلال فترة وضعها ولا بعد ذلك، أي أنهم نهلوا من النظريات القديمة دون انتقاء . كما اتجه آخرون إلى التقليد الأعمى لنظريات، ليست وليدة إطارهم الفكري، ومرجعياتهم الثقافية، والمجتمعية . وقد تم ذلك عبر تبني إطارها النظري ومصطلحاته دون استثمار لنتائج هاته النظريات لأنها ليست إلا نتائج جزء مرتبط بأجزاء أخرى ليست متوفرة لدى المقلد.
وإذا كانت الثقافات تعيش لحظات التأثير والتأثر، وتعرف التبادل والتماس، والتعايش والتكامل، والتنافر والتضاد، كتبادل الإنسان للسلع، والسفراء، والأفكار، وغيرها من الأمور القابلة للتبادل، فإن كل ثقافة تنظر – عبر مفكريها – إلى الثقافات الأخرى من زاوية تخفي خلفيات قيامها، وأسس بنائها، وتركيبة مكوناتها. ويتحتم على الباحث في ثقافة من الثقافات القيام بحفريات في مجالات متعددة تضم عناصر كبرى وأخرى صغرى يقع الاختلاف بين الباحثين في أمرها، أي أنه وجب على هؤلاء الباحثين الخوض في عوامل الفعل في نشوء ثقافة من الثقافات، وفي عناصر التأثير الداخلية والخارجية أي
البحث عن الأخلاق الثقافية الثاوية وراء كل عمل نظري .
لكل ذلك نفترض – وإن كان هذا الافتراض يستلزم بحثا معمقا للبرهنة عليه- أن التعدد الملحوظ في الثقافات الإنسانية، تعدد منطلق من ثقافة أم، تفرعت عنها هاته التمظهرات ذات الأساس الواحد المبني على سؤال أول أنطولوجي، منبثق عن السؤال الوجودي / الكوسمولوجي العام للإنسان في هذا الكون برمته .
ومعنى ذلك، أن مجالات الاختلاف في قلب الثقافة الواحدة، بل بين ثقافات متعددة متباعدة في الظاهر، موحدة في الباطن، هي مجالات تدخل في وحدة الاهتمامات الفكرية، وما تعدد تمظهراتها إلا كونها وجوه عملة واحدة تخفي قلبها الرغبة في الجواب عبر عمليات البحث المتجددة عن السؤال الأبدي الوجودي العام .
ومن خلال هاته المنطلقات نجمل الإشكال العام الذي نسعى إلى معالجته في هذا الكتاب، بمختلف أبوابه وفصوله، في آليات تمثل النظر والأسس التي يبنى عليها، خاصة في مجال النحو العربي القديم، من خلال ضبط العلاقات الجامعة بين التصور والوجود، وطبيعتها، بالإضافة إلى مناقشة قضية الانتقال من التصور إلى الوجود. ومن هاته الزاوية جعلنا له إطاره العام »إبستمولوجيا العمل اللغوي«. وقد اخترنا أن ننظر في نماذج من الأعمال اللغوية والفلسفية – قديمها وحديثها – عبر تشريح عينات من القضايا الكبرى التي طرحها روادها ومتزعموها – على الاتفاق والاختلاف – في مؤلفاتهم، وهم يعالجون المسائل اللغوية وغيرها من خلال كل المستويات التركيبية، والصوتصرفية، والدلالية،
والتداولية، والمنطقية، والوجودية وغيرها من قضايا تحليل العبارة اللغوية.
ولمقاربة هذا الإشكال وضعنا مجموعة من الفرضيات نحاول البرهنة عليها من خلال محتوى الكتاب؛ ونجمل هذه الفرضيات في ما يلي:
ـ أن التصور مناقض للوجود،
ـ أن الانتقال من التصور إلى الوجود المادي أمر غير جائز وغير واقعي،
ـ أن نتائج النظر تظل قابلة للتفنيد والدحض، وغير صادقة مطلقا لأنها نتائج محتملة، ونسبية تخضع للتطوير والإلغاء، وللهدم وإعادة البناء.
ومن هاته المنطلقات الافتراضية، محاولة للاستدلال على أن قول النحاة صناعي، ليس له علاقة وجود باللغة الطبيعية، إذ هوخيال نظري مرتبط بمقتضيات النظرية اللغوية . ونعمل أيضا على إبراز أن نظار اللغة أنشأوا عالما حواريا في قضايا اللغة، اعتمدوا فيه على مقدمات نظرية في شكل فرضيات تنشئ العلاقات، وتستلزم النتائج، في عالم يميز بين الواقع الطبيعي المنتهي، وبين النظر اللغوي المتصور واللا منتهي.
ولتعميق هاته المقاربة وضعنا مجموعة من الأسئلة، نطرح بعضها في هاته المقدمة، والبعض الآخر نبينه في ثنايا الرصد والتحليل قلب أبواب وفصول الكتاب . أسئلة لقضايا نعدها بوصلة توجيهية وخارطة طريق، تمكننا من إضفاء صفات المقبولية على طرحنا، وذلك بتوفر شروط ومعايير البحث العلمي الجاد، لدرجة تجعل نتائجه تدخل سوق النظر، وتكون جزءا من عمليات النظر وإعادة النظر، وذلك من مثل :
ـ ما هي الأصول، والأسس التي أقام عليها النحاة، واللغويون قواعدهم النحوية لضبط سيرورات الكلام العربي ؟
ـ وما هي الأصول التي كانت الأساس الذي انطلقوا منها في صياغة نظرياتهم اللغوية ؟
ـ هل أسسوا نماذجهم اللغوية على هاته الأصول بوعي منهم أم دون وعي منهم بها ؟
ومن بين الأهداف والغايات التي نسعى إلى تحقيقها استخلاص المعالم المطموسة في الخرائط النظرية التي أقام عليها هؤلاء أنظارهم، حتى نتمكن من ملامسة الفضاء التصوري، وعمارته للنظر عموما، والنظر اللغوي خصوصا .”
يشار إلى أن الكتاب من الحجم المتوسط 206 صفحة ، نشر كلية الاداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط ومؤسسة فكر للتنمية والثقافة والعلوم ودعم قطاع الثقافة .