السابع من أكتوبر، أعاد الأشياء إلى أصولها… أعاد إلى إسرائيل سؤال الوجود، وأعاد إلى الفلسطينيين سؤال الحق.
سؤال الوجود عند إسرائيل أبدي، إنه مصدر قلقها الدائم. هو أكثر من حالة ذهنية عابرة، نظرا لارتباطه بالتشوه الخلقي للدولة (بشكل وجودها)، وكذلك المجتمع (وطبيعة وجوده). هذا النوع من الأسئلة لا يلغيه التجاهل، ويزيد من حضوره التذكار.
مشكلة هذا الشكل المشوه من الوجود، تعدد “ضحاياه”.. أولها الموجود نفسه، الذي يحمل المرض جينيا، وسيبقى طيلة حياته (الجاني)، وثانيها من “تطلب” وجود ذلك الموجود نفي وجوده (الضحية)، ثم يأتي كل من تسبب في ذلك الوجود أو ساعد عليه، الى أن يصل الى من شهده ولم يمنعه، أو لم يحذر منه وذلك أضعف الإيمان.
ولا تقتصر ضحايا هذا الشكل من الوجود، على الأفراد والشعوب والكيانات، بل تصل الى نظام القيم، حيث وجد هذا النظام نفسه في معضلة ايضا؛ فالحفاظ على وجود هذا الشكل من الوجود، يتطلب الحفاظ على الضحايا كضحايا… هذا الشكل من الوجود، يعيدنا الى سؤال “الموت الرحيم”، الذي تبين أنه سؤال يتجاوز الأفراد، الى الكيانات.
ومن ضمن غرائب صاحب سؤال الوجود، أنه لا يفكر بإيجاد إجابة له إلا لدى الآخرين، هو يعفي نفسه من المسؤولية سلفا، إذ لا يستطيع أن يصل إلى نتيجة مفادها أن الإجابة عن سؤال وجوده، يكمن في ذات ذلك الوجود، وبالتالي يحمل الضحية كل ما يترتب على وجوده القلق والاشكالي، ويطالبها بإيجاد حل للمشكلة.
لكن صاحب سؤال الوجود الذي يطالب الآخرين وخاصة الضحية، بتقديم الإجابات عن سؤاله، يتحسس في الوقت ذاته لأي محاولة من قبل الآخرين لإيجاد حل للمشكلة. فهو يرتعب من أية حركة لها علاقة بوجوده، حتى لو كانت تلك الحركة محاولة من الضحية، لإيجاد وضع تستطيع فيه التعايش مع من تسبب في جعلها كذلك (اوسلو مثلا).
هو يرى في أي وجود لضحيته استمرار لسؤال وجوده، لذلك يخطط ويستعد ويخوض الحروب، ويستخدم كل ما يستطيع من أجل التخلص من تلك الضحية. وعندما لا ينجح تطرفه في القيام بذلك، يذهب الى المزيد من التطرف. ولا يفكر في اي تراجع لأن ذلك يطعن في شرعيته، ويذكره بسؤال وجوده.
هكذا تطور المجتمع في اسرائيل، وهكذا تطور نظامها السياسي؛ تراجع حزب العمل الذي حكم في البدايات لصالح الحزب الأكثر تطرفا الليكود، الذي مثله متطرفو اسرائيل في حينه (بيجن ثم نتنياهو)، وبعد وصول هؤلاء الى الحكم، اقتضت الحاجة الى ذهاب النظام الى اليمين اكثر، فجاء بن غفير وسموتريتش ليكونوا على يمين نتنياهو وأكثر تطرفا منه، والمرشح في قادم الأيام أن يكون بن غفير وسموتريتش هم “الوسط” ويأتي متطرفون جدد اكثر وضوحا وأكثر “ابداعا”.
هكذا هو منطق سؤال الوجود عند صاحبه. فوجوده اللا معقول، يرتبط ارتباطا كليا بعنصريته وباستثنائيته، وضرورة تسليم العالم كله بهذه الاستثنائية. وأي انحراف عنها مهما صغر، يثير ضغينة ذلك الاستثنائي، الذي يقيم الدنيا ولا يقعدها قتلا وبكاء. إنه استثمار “مجد” في اللامعقول.
أما سؤال “الحق” عند الفلسطيني فهو سؤال الحياة، التي لا تكتمل إلا بالوجود على الأرض، وبالتشبث بها. فالحياة خارج الأرض (الوطن) غياب للكرامة، وبدون كرامة تصغر المسافة بين الحياة والموت الى حدها الأدنى.
ما يزيد من معاناة الفلسطيني أنها ليست نابعة فقط من فقدانه لحقه، بل ايضا من الطريقة التي تعاطى بها العالم مع ذلك. فاستثنائية الجاني انتجت نفاقا استثنائيا للعالم، بحيث بات مطلوبا من الضحية أن تضبط شكل معاناتها حتى لا تزعج الجاني أو تحرجه. هذا يتطلب من صاحب الحق (الضحية) أن يحاول عقلنة الوجود اللامعقول لقاتله، من ناحية، وأن يعي معاناته بطريقة الجاني، حيث تكون تلك المعاناة مجرد وهم ناتج عن هذيان الضحية، أو في أسوأ تقدير، أن يعتبر نفسه وسوء تقديره وتخلفه سبب تلك المعاناة.
اكبر جريمة يمكن أن يرتكبها صاحب الحق (الضحية)، إذا فكر أو تصرف على أساس أنه متساو مع صاحب سؤال الوجود (الجاني)، فهما بعرف “العالم المتحضر” لا يجب أن يخضعا لنفس المعايير. هذا يتطلب من صاحب الحق أن يؤمن هو أيضا “بتفوق” الجاني واستثنائيته، وأن يعتبر العنصرية والتمييز ضده شيئا طبيعيا، وأن يخلي مسؤولية الجاني من أي وضع (خلل) في العلاقة بينهما.
هذا هو الذي جعل “العالم” يفكر بعنصرية عند اضطراره للتفكير في موضوع فلسطين وإسرائيل، لأن مساواة الجاني والضحية بعرفه ليس معقولا، اذ يسلب الضحية “دونيتها” و”الجاني” تفوقه، فعند الحديث عن حل الدولتين الذي يعتقد العالم أنه ذروة بعده عن الاصطفاف مع الجاني، يتم الحرص على تفوق اسرائيل التي يجب أن تبقى في وضع تتفوق فيه على جيرانها مجتمعين، ويجري الحديث عن فلسطين منزوعة السلاح والقابلة للحياة، فالأمن يجب أن يكون للجاني، وللضحية “تعهد” بأن لا يتم تركها لتجاوز حافة الموت.
عندما تكون العنصرية شيئا طبيعيا، لا تكون الضحية مسؤولة عن معاناتها فقط، بل هي مسؤولة أيضا عن كل ما يترتب على معاناتها من آثار سلبية على الجاني. مطلوب من الضحية أن تختار وسائلها بشكل لا يمس الجاني أو يثير حفيظته، ومطلوب من العالم أن يتفهم ردود الفعل العنيفة للجاني، في حال تجاوزت الضحية حدود “الادب”، حتى لو كان رد الفعل هذا إبادة جماعية، أو تهديد باستخدام “السلاح النووي”.
فيما جرى ويجري الآن في غزة، ثبت أن الضحية أدركت أن المظلومية ووضوح الحق، لا يكفي لوقوف الآخرين الى جانبها ولا حتى لتعاطفهم معها، بل ضرورة أن يترافق الحق مع القوة. لقد حاول الجاني إقناع نفسه أن القوة تصنع له حقا، لكن الواقع أثبت بطلان ذلك، في حين اكتشفت الضحية كم ينبغي لها أن تكون قوية من أجل تثبيت حقها، واكتشفت شعوب العالم، كم الوقوف الى جانب الجاني والتنكر للضحية هو جريمة موصوفة.. اكتشفت أن فلسطين تؤنسن الواقف الى جانبها.
كما دفعت أحداث غزة، كلا من الضحية والجاني ليظهر كل منهما على حقيقته؛ ففي حين تشبثت الضحية بحقها بوسائل انسانية، واظهرت احترامها لقيم البشرية (المفترضة)، سقط القناع عن الجاني الذي فقد أعصابه في ذلك اليوم، ليس لأن ضربة شديدة قد وجهت له، بل لأن تلك الضربة جاءت وهو في قمة صلفه وكبريائه، ولأنها جاءت من طرف ليس “بمستواه”، ولا “يمكنه أن يكون”.
لجأت الضحية للأمم المتحدة مرارا رغم ثقل الدولة “الأكبر”، وذهب نتنياهو في المرة الوحيدة التي صوتت فيها الجمعية العامة لوقف إطلاق النار، الى انكشافه الكلي حين قال، أن الأمم المتحدة والمحاكم الدولية “وجدت لنا ولتثبيت حقوقنا” (اليهود) وليس لغيرنا.
يصر الجاني على سلب الضحية هويتها، فأي تجسيد لهوية الضحية يعني كشفا لهويته “المزورة”. قد “يتسامح” الجاني بنجاحات فردية لضحاياه، لكنه يحول دون أن تسجل الضحية أي نجاح جماعي لأنه يرمز بشكل أو بآخر لهوية.
خلاصة القول.. يترجم سؤال الوجود عند الاسرائيلي بنفي الفلسطيني (تهجيرا أو تقتيلا)، ويترجم سؤال الحق الفلسطيني تشبثا بالأرض (بقاء أو عودة)، لذلك فإن الصراع عاد الى جوهره، صراع بين التهجير والعودة، وأي خروج عن ذلك، ما هو إلا تكريس للمشكلة.