كتب: عبد الواحد الطالبي ـ
عشرة أيام لأواخر رمضان في مكة المكرمة، ألهمت الزميل عبد الواحد الطالبي لتوثيق مشاهدات عابرة في يوميات صادفته أثناء أداء مناسك العمرة هذا العام خلال الشهر الفضيل، ينقلها دون تكلف وبغير قصد من شأنه الإضرار بأي طرف أو المساس بأية مشاعر، فإنما على الله قصد السبيل في الإعراب عن خوالج الصدر من أحاسيس عب اليراع مداده من فيض غمرها فسال على صفحات يبثها موقعنا الإخباري على حلقات.
*تناهى إلي في الضجيج والصخب من وسط الزحام صوت رخيم يتكلف الصياح، اخترق مسمعي بنداء التوسل أن أحجز مقعدا في الحافلة التي اكتظت وستقلنا واطئة نحو وجهات المعتمرين والمصلين حيث يرقدون.
ما كان يلفتني أي لافت في اللجة غير لهجة بلادي تسللت ثم نفذت ببراءة اللسان الذي نطقها بلكنة مراكشية في براءة شفيفة.
كاد الجسم النحيل يتيه بين كتلة الأجساد المتدافعة لركوب الحافلة وتدوسه أقدام الصعود، حين استصرخت الشابة المغربية “عافاك! عافاك! حتى أنا مغربية اعتقني…” توشك أن تختنق، ولم تلتقط أنفاسها سوى من بعدما اقتعدت جنبي ولملمت حروف كلماتها…
هي طالبة هندسة الطاقات النظيفة تدرس بإحدى أرقى الجامعات الخصوصية في الرباط، قَدِمَت مكة من فرنسا، جاءت في رفقة من زميلاتها كُنَّ ضمن بعثة في إطار الشراكة الثنائية بين الجامعات المغربية ونظيراتها الفرنسية للتبادل الطلابي التعليمي لفصل دراسي أقصى مدته سنة واحدة.
كانت في عقدها الثاني أنحف من زميلَتيْها، وبدت داخل جلباب مغربي خيزرانةً أصغر من عمرها يُطِل وجهها الشاحب من حجاب الرأس الذي تتكلم فيه شفتان جَفَّتا من سعيٍ وطوافٍ وركضٍ عقبَيْهما حتى محطة الحافلات وهي التي وزميلتاها وصلن للتو من المطار لرحلة دامت ساعات سفر ومثلهن في انتظار.
بمطار جدة حُزْنَ تأشيرة العبور سياحة إلى المملكة العربية السعودية مقابل 150 يورو، وأخذن قطار الحرمين إلى مكة المكرمة ثم توجهن إلى الفندق في حي العزيزية يحمِلُهُنَّ الشوقُ بإيمان إلى عناق الكعبة المشرفة والارتماء في حضنها صلاة وتكبيراً وتهليلاً ودعاءاً في طواف ومن بَعدِه سعيٌ وارتواء.
ثلاثُ فتيات شابات في عمر الزهور، لم يُغْرِهِنّ بريق الغرب ولمعان مدنيته، ولم تَسُقْهُنَّ رغبات جيلهن في عطلة دراسية قصيرة إلى بلد قريب مجاور في أوربا، ولا شغَفَهن الذي شغف القرينات حبّاً في ليل باريس وروما وسهرات فيينا وبرلين وأماسي الأنس الصاخبة على النواصي وفي النوادي…
أَتَيْنَ الحرم بمصروف الجيب الذي مكن كل واحدة منهن أبواها بمبلغ قليل أو كثير، فَتضامنَّ لإيجار غرفة ثلاثية كلفتهن 210 يورو لكل ليلة مبيت بنصيب الثلث للواحدة.
ما تزال الشابة المغربية تسرد قصة السفر لأداء مناسك العمرة وكيف خامرتها وصديقاتها فكرة ليست هينة القرار والاختيار لاسيما في العشر الأواخر من رمضان إلا على المُجَرِّب الذي فكّر ودبّر واختار وقرّر على مدى أسابيع من ترتيب ما يحتاجه من حجوزات وتأشيرات سفر وأغراض شخصية واستعداد نفسي وبدني ورصيد مالي… والتمنيات تراودني لو يغنم ابني زوجة بمثل هذه الشابة ورفيقاتها او لو كنّ هُنَّ لي من صلبي بناتا وتَرِبَت يداي…
وعندما ودعت الشابات المغربيات وما يزال في طريقهن مشوار قبل محطة الوصول، ترجَّلت لما توقفت الحافلة في محطة “محبس الجن” وانطلق تفكيري مع انطلاقة قدميَّ أَغُدُّ السيْرَ في تاريخ من محطات التغيير والتحول الذي تشهدها المملكة العربية السعودية منذ تولي خادم الحرمين الشريفين مقاليد البلاد وولي عهد الأمير محمد بن سلمان.
ما كان إلى عهد قريب يتوقع امرؤ وحتى الأشد تفاؤلا، أن يتهيأ في وقت وجيز لشباب الأمة الإسلامية من الفتيات اليافعات هذا الإقدام الذي تتيحه رؤية 2030 للحلول من غير محرم بين ضيوف الرحمان في أرض الحرمين عبر القنصليات الإلكترونية التي تمنح تأشيرات الدخول السياحي بلا عراقيل…
ولا كان أحد يتصور السرعة التي تتطور بها البنى التحتية ويسير إليها الانفتاح من دون ميوعة في المجتمع السعودي الذي تمثل سريعا القيم التي نادى بها العهد الجديد في طريق التحديث والعصرنة متحررا من إسار هيئات التسلط غير المسنودة بفقه الشريعة المتوافقة مع مصلحة الدولة المدنية.
أسرع بي الخطو إلى الفندق لإدراك وجبة السحور، ووجدتني أتمتم بين النزلاء وهمسي له آذان إن السعودية تغيرت فعلا وأن التغيير فيها كله خير
أليس الخير أن يدرك المرء ما يتمناه وقد أدركنا ولله الحمد والمنة فتيات أمتنا يحرصن على الإحصان بالدين حتى تمنيناهن لو يكن لنا من أصلابنا أولادا… فشكرا للملك سلمان وللأمير محمد ما أتاح من اكتشاف ما في شباب هذا الجيل من خير بدين الاسلام.