في العالم القديم ، كان الناس يعتقدون أنَّ الشمسَ تشرقُ من اليابان ، وتغرُبُ في المغرب .
لكنَّني كنتُ أقول : لماذا يخطىءُ هؤلاء الرؤيةَ ، ألا ينظرونَ إلى الشَّمس التي لا تأفلُ أبدا ، وأنا من طبعي كإبراهيم لا أحبُّ الآفلينَ ، فإنْ نامت الشَّمسُ في مكانٍ ، فهي صاحيةٌ في آخر .
الشَّمسُ في مذهبي تنامُ على كفِّ المغرب وتشرقُ منها ، ولا تغربُ أبدا ، فهذا ليس بلد غروبٍ ‘ هو بلدُ شروقٍ وإشراقٍ ، بلدٌ يفطرُ على الكرم ، ويتغدَّى على المعرفة ، وينامُ على الحبِّ والوصْلِ .
بلدُ حضاراتٍ متعاقبةٍ ، ولغاتٍ شتَّى ، وأمشاجٍ من أقوامٍ ، هو حاضنٌ للغُرباء ، وبابٌ للمطرودين من رحمةِ الدينِ و السياسةِ ، إذْ منذُ القرنِ الأول للميلادِ ، وعلى أرضهِ أقيمت ممالكُ ، وسطعتْ حضاراتٌ ، وإنْ كانت دالتْ ، فقد ظلتْ عائشةً في قلوبِ وأرواحِ المغاربة .
المغربُ ، بلدٌ أحبهُ كثيرًا ، لي فيه إخوةٌ وأصدقاءُ كبارٌ في الشِّعرِ والروايةِ والفلسفةِ والنقدِ والتصوفِ والموسيقى والفنِ التشكيليِّ والمسرحِ ، بل شرَّفني العشراتُ من كبارِ مبدعيه ونقَّاده بنقدِ وقراءةِ تجربتي الشعريَّة ، ولن أقولَ إنَّني مدينٌ لهم بشيءٍ ، إذْ عندما أمشِي وحيدًا أو برفقةِ أصدقاء في أحد شوارعِ أية مدينةٍ مغربيَّةٍ ، أشعرُ أنَّ هذه الأرضَ لي ، وأنا منها ، لي فيها إرثٌ وحرْفٌ ونشيدٌ ضائعٌ غريبٌ منسيٌّ عليَّ استرجاعه ، إذ تمنحُني وجودًا ، وحميميَّةً ، وقديمًا قيل : المكانُ بأهله ، وأهل المغرب متحضرون كرماءُ في كلِّ شيءٍ ، وأنت كلَّما سرتَ رأيتَ طبقات الحضارة باديةً تتساقطُ بردًا وسلامًا على رأس رُوحكَ كمطرٍ قديمٍ آتٍ من سديمٍ يعرفُكَ ، أنتَ فيه دائمًا .
قد يكونُ المغربُ هو البلدُ العربيُّ الوحيدُ ، الذي يفتحُ أبوابه دونَ أن يطلبَ منك الإذنَ أو الطرْقَ .
هذا بلدٌ كلما سافرتُ فيه بشَّرني بالجنَّةِ ، إذْ رُوحي ما تزال تسكنُ ورزازات ومراكش وطنجة وأصيلة والرباط وزاقورة والدار البيضاء والمحمديَّة وفاس .
أنا مدينٌ لابن بطوطة المغربي ، وأقطابِ التصوف ، الذين أتوا إلى مشرقنا من ديار المغرب ، ومنذ كنتُ أدرسُ المغربَ في التاريخ والجغرافية بالمرحلتين الإعدادية والثانوية ، منيتُ نفسي أن تكونَ المغربُ وجهتي عندما أكبرُ مع دولٍ أخرى أحببتها منذ صغري مثل تركيا وإيران وإسبانيا
” الأندلس ” ، وبلدان آسيا الوسطى ، إذ كنتُ وما زلتُ مهجوسًا ب ” سبتة ” و” مليلية ” المدينتين اللتين يحتلهما الاستعمارُ الإسبانيُّ إلى يومنا هذا .
لا توجدُ مناسبةٌ لأكتبَ عن بلدٍ عريقٍ يحلُّ فيَّ ،إذ كتبتُ كثيرًا عن مغربي الذي أحبُّ ، ولكن من فرُوضِ القولِ أن أقرِّرَ أنَّ الجُهلاء وحدهم هم من يهجُون الشُّعوبَ ، ووحدهم أيضا يسبُّونَ ‘ إذْ الجاهلُ عادةً لا يدركُ شلالَ النورِ المندفقِ من بحرِ المعرفةِ ، فإذا ما صُمَّت آذان عينيه ، قال : إن العتمة تغلبُ المكانَ . .