أحدِّثكم عن شقيقتي (نور).. تتدلَّى من أصابع يدها أمواجٌ مضيئةٌ بألوان مختلفة، وتعلو جبهتها نجمةٌ متوهِّجةٌ دومًا، بشرتها بيضاء شفَّافة.. إذا أطَلْت النظرَ إليها؛ لمحت تدفُّق الدماء في عروقها، رقبتها مشدُودة وناصعة، وشفتاها جمرتان من اللهب، جسدها ملفوفٌ شهيٌّ، وشعرها كأسلاك من النحاس والذهب. لكنَّها، بالرغم من ذلك، كانت عثرة الحظِّ جدًّا، كأنَّ هالةً من سُوء الطالع تحيطها. خطيبها الذي أحبَّته مات أمامها ميتةً بشعةً، بينما كانت تنتظره على رصيف القطار؛ رآها؛ فهبط مسرعًا قبل التوقُّف؛ فدهسته العجلاتُ الحديدية.. هكذا، أمام ناظريها. اكتأبَت طويلا لدرجة أنَّ حزنها كان يتساقط بين أقدامنا من دون قصدٍ منها، وكُنَّا كلَّما دُسنا عليه؛ تصل مرارته إلى حلوقنا، سئمنا جميعًا من الحُزن، ومن وفائها لحزنها؛ فأرغمناها –تقريبًا- على الزواج من رجلٍ هبط علينا في لحظةٍ خاطفةٍ ومُشوَّشة.
الحُزن تعتاده حتَّى إنَّه في أغلب الأحيان لا يقتلك، بل تعايشه وتهادنه وتمدُّ معه جسرًا طويلًا ومُمهَّدًا للصداقة، لكنَّ القتلَ الحقيقيَّ يختبئُ وراء القهر والإجبار، ذبلت (نور) وانطفأت آخرُ شعلةٍ مضيئةٍ بين عينيها، تلك الشُّعلة التي كان يُبقي عليها إخلاصها لحبها الراحل، ذابت حتَّى تلاشت وانكمشت، حتَّى إنَّك إذا أطلتَ النظرَ إليها؛ رأيت بُقعًا من الدَّم الأزرق المُتجلِّط تسدُّ عروقها.
لم يساعدها أحدٌ، تركناها تواجهُ قدرها وحدها وأغمضنا أعيننا، لكنَّ شؤمها عاد مجدَّدًا فوق كتفيها، طردها زوجها من بيته عندما نادته باسم خطيبها الرَّاحل، وسلَّمنا بأنَّ النَّجمةَ المرسومةَ أعلى جبهتها كوكبُ نحسٍ، تركناها وشؤمها منفردين، وبقيَت بيننا كأنَّها قطعة زائدة من منقولاتها التي ازدحم بها البيت فجأةً.
أحيانًا تُعلن (نور) عن وجودها لَمَّا يصل إلى آذاننا صوت نحيبها المزعج، بكاؤها ثقيل كأنَّها تعتصر قلبها فتتحوَّل عصارته إلى سائلٍ لزجٍ كثيفٍ له طنين.. “ماذا تريد (نور)؟ ما الذي يُبكيها؟”.. نسأل أنفسنا، ولا أحدَ يسألها.
في إحدى ليالي سبتمبر – سبتمبر هذا شهرٌ مُحَيِّرٌ مثل شقيقتي (نور)؛ حارٌّ أحيانًا، وباردٌ أحيانًا، ومُغَبَّرٌ أحيانًا أخرى- هلَّت (نور) كرياحٍ مُنعشةٍ دافئةٍ تداعبُ القلوب، ولَمَّا دقَّ جرسُ الباب؛ دلفَ منه شابٌ طويلٌ سُررنا برؤيته، ثُمَّ تفاجأنا.. وتعجَّبنا.. وقلقنا؛ عندما سمعناه يطلب يد (نور) -التي بهتت أخيرًا، أشفقنا عليه من نحسِها، وسكتنا، رُبَّما كان حظُّه أفضل من سابقيْه.
طلَّت علينا (نور) ببهائها السَّابق، صارت شمسًا ليلة عرسها، مُنيرةً.. واضحةً.. حارقةً.. وبهتت النجمة المشؤومة التي فوق جبينها حتَّى يُخَيَّل للناظر أنَّها اختفت، تحوَّلَت الأمواجُ المضيئةُ التي تتدلَّى من أصابع يدها إلى أشعَّةٍ مُحرقةٍ وساطعةٍ، يا الله.. (نور) صارت شمسًا بالفعلِ حتَّى إنَّك إن أطلَت النظرَ إليها؛ لمحَت سريانَ الدَّم وهو يختلط بذرَّات الهيليوم في عروقها.
***
هل سمعتم عن حكاية الحمار في المزرعة؟
من المؤكَّد لا، إنَّها قصة طريفة جدًّا من خيال أمِّنا، تحكي عن بقرة وعنزة ودجاجة وأوزة وحمار، كانت تشترك في زراعة قطعة أرض وحراستها، الجميع يقوم بعمله عدا الحمار الذي كان يُضيِّع مجهوداتها بحماقته، لكنَّ الأخوَّة التي كانت تجمعها تجعلها تسامحه في النهايةِ. وبعد رحيل أُمِّنا تولَّت (نور) سرد القصة علينا أنا وشقيقنا الأصغر. لذلك، عندما طلبتُ من زوجها الجديد أن يضع حدًّا لعلاقتنا السرية وينفصل عنها؛ لم أنشغل بتحديد أيٍّ منَّا كان يتقمَّص دور الحمار.
أوه.. الرجال لا يجيدون التصرُّف بالحكمة المطلوبة بخاصة عندما يكون الأمرُ مُتعلِّقًا بامرأةٍ، تحجَّج وهو صادق، أُجزم بصدقه؛ ليس لأنَّه رفيعُ الخلق، لكن لأنَّه لا يملك رفاهية الكذب أمام عينيَّ، لطالما امتلكتُ نظرات إذا ما وجَّهتُها إليه؛ ارتبك وأُرغم على البوح. المهم؛ أخبرني أنَّه لمَّا هَمَّ بإخبارها؛ كانت ترتدي زِيًّا هنديًّا، وتُجهِّز طبق برياني باللحم؛ فاقتحمت معدته رائحة الكاري حتَّى انتفخت وفقد كُلَّ شجاعته، يشتعل جبين (نور)؛ فيتوه الرجل وينسى نفسه.
آه منك يا (نور).. تربحين باللِّين ما لا يُكسب بالحرب أبدًا.
ليكن، ليجرِّب مرَّةً أخرى، في المرَّة الثانية، عاد خائبًا، يقول إنَّه وجدها تكوي ملابسه الداخلية؛ فشعر بالخِسَّة، وأفل.. وصمت.
***
(نور) تُذيب الخلَّ والصودا في مسحوق التنظيف.. يفور الخليط.. وتضعه على السجاد؛ فتزول البُقع الكثيفة فورًا، تبدو وضَّاءةً.. سمحةَ الوجه كغيمةٍ طيبةٍ تُخفي ماءها لأيَّام الجفاف.. أناملها البيضاء الطويلة لم تتأثر بمواد التنظيف الحارقة.. إنَّ المرارة دائمًا تُبرز حُلوها.
أريدُ زوجَكِ.. لقد سئمتُ التَّخفِّي والحذر.
سقطَت من يدها زجاجة البخَّاخ التي كانت تُذيبُ بها بُقع السَّجاد، ونظرَت بعيدًا وأطرقَت كمَن يُفكِّر، ثُمَّ أطلقَت ابتسامةً غامضةً.. وقالَت:
هل أتركُ البيتَ الآن؟ ما زال الأثاثُ والفرشُ في حاجة إلى إزالة البُقع.
***
هل رأيتم يومًا كرسيًّا يبكي؟
يوم رحيلها كانت الجدران تنتحبُ، كأنَّ (نورًا) قد علَّمتها كيف تُحوِّل حزنَها إلى سائلٍ لزجٍ كثيفٍ له طنينٌ، وكان الأثاثُ الذي دأبت على تنظيفه من البُقع يولولُ، يبدو أنَّها كانت تُتقنُ الحديثَ مع الجمادات والأشياء. دمعة خائنة فرَّت من عينيها؛ رقَّ قلبي للحظة، ثُمَّ حوَّلتُ نظري بعيدًا عنها.
عادَت (نور) إلى بيتنا هذه المرَّة بلا أثاثٍ.
عجبًا.. لماذا تُضيء شقيقتي ولم تنطفئ؟
أبونا.. أوه.. بالطَّبع علَّق على ما حدث، بينما يتناولُ شريحةً كبيرةً من البطاطا النيِّئة وهو مُمَدَّد على أريكته فلا نكادُ نرى وجهه من ارتفاع بطنه، وذوبان رقبته..
لا بأس بالزواج والطلاق، ما دام في البيت فتاةٌ تديره.
***
هل ابتلعتُم وهمًا من قبلُ؟
كيف كان طعمه؟
البيت ضيِّقٌ رغم نحافتي، وسقفه مُتدلٍّ، أشعرُ أحيانًا أنَّ النَّفس الذي أُخرجه يعود إليَّ بآليَّةٍ؛ فيطبق على صدري، الأثاث ولاؤه لنور، المطبخ يتآمرُ عليَّ، الموقد شعلته تنطفئ حينًا وتعلو حينًا؛ لتفسد طعامي، السَّجَّاد لا تزولُ بقعه بالرغم من تأكُّدي لإذابة الخلِّ والصودا في مسحُوق التنظيف، خشب الباركيه يئنُّ تحت قدميَّ حتَّى أظنَّ أنَّني سأسقطُ على رأس جارتي النحيفة وأدقُّ عنقَها، أتعلمون؟.. إنَّها تستحقُّ ذلك المصير؛ فكُلَّما رأتني أهبطُ الدَّرج؛ مصمصَت شفتيها ونعتَت الزَّمن بالغادر والمشين. البيتُ كأنَّه مسكونٌ بشبح (نور) الذي أحمله ويُدَلِّي ساقيه من فوق كتفيّ ويُخرج لي لسانه؛ كُلَّما نظرتُ في المرآة.
زوج أختي.. أقصد طليقها.. أوه.. أقصد زوجي.. رجلٌ حياديٌّ ومُملٌّ.. مُتذمِّرٌ دائمًا.. المخبول يريدني خادمةً أُنظِّف قاذوراته، وأملأ معدته، وأُشبع ذكورته، وينبغي أن أُبدي امتناني لذلك، كيف تحمَّلَت (نور) تلك الشَّمس المحرقة أكوامَ البلادة والعاديَّة والذكوريَّة السَّمجة في هذا الإنسان لعاميْن كامليْن؟ بل كيف لم أرَ ذلك من قبلُ؟
***
أنا (نوران)، الفتاة الفارعة ممشوقة السَّاقين، فاحمة الشَّعْر، واسعة العينين، يسير إلى جواري رجلٌ ببطن مُتكوِّر، وشعر منحُول، يتجشَّأُ أمام الناس، ويُطلقُ النكات السَّخيفةَ.. لم يكُن بهذه البشاعة منذُ عامين.. أصابعه المرتعشة وتساقط الشوربة من بين شفتيه الجافتين مُقزِّز للغاية.. تعرُّقه الدائم وجفاف حلقه.. نهمه للسكر.. ضراطه المتكرِّر، يا للقرف.. أودُّ قتلك أيَّتها الجيفة السَّائرة على قدمين.. لن أغفر لك كما فعلت الحيوانات مع حمار المزرعة.
***
في الصباح ذهبتُ إلى أبي، فلمَّا رأى وجهي؛ تفل عن يساره ثلاثًا واستعاذ وحوقل..
ما هذا النحس الذي أطالعه في أوَّل اليوم؟ اغربي عني..
جريتُ إلى غرفة شقيقي؛ فأبعدَ وجهه، وقال لي: “يا بومة”.. هربتُ إلى (نور)؛ فتبسَّمَت.. وأعطتني رغيفًا من الجبن والخسِّ؛ فقذفته في وجهها وعدتُ إلى بيتي، وسألت زوجي:
هل ترى النَّحس فوق جبيني؟
لا أرى جبينَكِ من كثرة انتشار النَّحس أعلى جبهتك وحول عنقك.. هناك قردٌ يقفزُ فوق كتفيكِ.. (وتجشَّأ وضرطَ من شدَّةِ الضَّحك)..
جريتُ إلى الشارع.. أسألُ المارة عن النجمة التي تتحوَّل إلى كوكب نحس؛ فيضحكون ويستعيذون من النَّحس.. ما زلتُ أجري حتَّى أخبرتني امرأةٌ عجوزٌ أنَّ سحابةً سوداءَ تتبعني كُلَّما تحرَّكتُ.. نظرتُ إلى أعلى؛ فوجدتُ وجهي على السَّحابة.. بدا آفلًا كوجه (نور) عندما مات خطيبها الأوَّل تحت عجلات القطار.