من عبد الواحد الطالبي – مراكش
افتقد مسلسل “لمكتوب” الذي بثته القناة الثانية للتلفزة المغربية ضمن برمجتها اليومية خلال شهر رمضان للرؤيا الفنية المؤَطَّرة بخلفيةٍ فكرية، وتَسَتَّرَ عن ضعفه الدرامي ببراعة التشخيص الذي أبدع فيه جيل من الممثلين تزودوا قدر الممكن بالتكوين الأكاديمي والمعرفة الفنية في مجال المسرح والتنشيط وأداء الأدوار التمثيلية.
مسلسل المخادعة الفنية غير المسنودة بمرجعية فكرية
وغابت الحمولة القيمية في الحبكة الدرامية التي لم تجسد الصراع المفترض بين طرفي “البطولة” التي تمثلها أسرة (المعطاوي) و(الشيخة حليمة وبنتها) باعتبارهما رمزان مجتمعيان محمولان على ثنائيات متعارضة متناقضة متضادة من شأنهما أن يفتحا الصراع الواقعي والدرامي معا على كل الاحتمالات داخل منظومة القيم الانسانية والاجتماعية…
فالسلسلة كما اشتغلت عليه سينمائيا بالنسبة للفضاءات وللديكور والملابس والحالة والوضعيات واللغة والعَلَمية في مدينة الرباط، أوحت بقدرة تفجير المسكوت عنه في الصراع الخفي بين ثنائيات الفقر/الغنى والنفوذ/الإذعان و التحضر/الرجعية والرقي/التخلف و المال/الحاجة و العفة/الخلاعة و الاكتفاء/الجشع و الشرف/الوضاعة و الطيبة/الخبث و العلم/الجهل و الصدق/الكذب و الوفاء/المكر و الأعلون/الأسفلون…
غير أن كل الأثاث الذي تزَيَّنتْ به الشخوص والأمكنة، كان مجرد مساحيق في سيناريو اعتمد أسلوب المخادعة في أَسْر المُشاهد على مدى وقت كل حلقة كانت كالزنبرك إذا ما تمطى، تنفتح على حركة جديدة من الخداع الفني الذي لا تسنده مرجعية لا ثقافية ولا فكرية ولاسياسية هو في ذلك مثل حركة البهلوان.
فما استطاعت المقابلة بين الحي الشعبي في المدينة القديمة للرباط حيث مسكن “الشيخة وبنتها” مع مثيله الراقي في العاصمة موقع فيللا “أسرة المعطاوي” أن تمنح للمُشاهد أية فرجة درامية تقتحم سقف توقعه للصراع الممكن على صعيد المجال في النسيج الحضري للمدن المغربية وبين فئات المجتمع المتوزعة على السكن الهش القديم أو السكن العمودي المتوسط وعلى السكن الأخضر الأفقي الراقي؛
ولا استطاعت أن تحرك الصراع باتجاه المواقف المسبقة النمطية من حقول العمل لكسب الرزق وأسباب البحث عن سبل العيش، فحرفة “الشيخة” تم إقحامها إقحاما مفصولة عن القيم الفنية والاجتماعية والأخلاقية لامتهانها فيما أفق الانتظار لدى المتلقي توَقَّع أن يُحَمِّلَه السيناريست والمخرج معا بحمولات من مثل ما سبقت إليه آراء الجمهور في المواقف المعلنة عبر مواقع التواصل الاجتماعي أو بعض الوصلات الحوارية المبثوتة في مواقع الأخبار بالتعليق والاستقصاء عن الانتاج التلفزيوني الخاص بشهر رمضان، بل إن السلسلة ذاتها وقعت مع توالي السرد في ارتباك فظيع عند توصيف شخصية “الشيخة” وتقديمها بين محطة الانطلاق وبين محطة الوصول…
ف”حليمة” تلك الشيخة التي طالعت المتفرجين في الحلقات الأولى من “لمكتوب” بتعبيرات ومواقف ومشاعر من شأنها تصحيح نظرة المجتمع لشريحة الشيخات في ما التصق بصفة الحرفة الفنية من أحكامِ قيمةٍ تتهم الشيخة بالمجون والفسق والعهر وبكل ذميمة مما تَمُجُّهُ المجتمعات المحافظة وتنبذه، فَشِل المسلسل في تطوير مواقفها والارتقاء بها الى مستوى الصراع القادر على الارتفاع الى درجة الذروة في التواجه الدرامي مع قيم المعارضة التي جسدها السيناريو في الجارة أم يوسف ثم في البتول وسلمى وحميد وبعدئذ يوسف وأخته ومن ورائهم مجتمع “ادعاء الفضيلة”.
السقوط السريع
أسقط المسلسل سريعا “الشيخة” في مستنقع الأحكام الجاهزة عن “الشيخات” وأفرغ شخصية “احليمة” من ذاتها كما قدمها أول مرة وألبسها لبوسا تَحَلَّلَ من لغة جماعتها ومن قناعاتها الاجتماعية ومبادئها الإنسانية كما تبَدّت في التماس العمل لدى صهرها “عمر المعطاوي” لبنت زميلتها جميلة وفي وفائها لمجموعتها الفنية ولعملها وكذا لرفضها الرقص ماجنا تحت إغراء “لغرامة” في المقصف…، وذلك في مواقف لم يتم التمهيد لها بما يكفي من أدوات الإقناع الدرامي الفني في سيرورة الصراع نحو الحلول الممكنة لتجاذب المواقف والمبادئ والقيم بين الأطراف الدرامية…
فالشيخة سرعانما تجردت من آدميتها في أشد مشاهد تراجيديا المسلسل، عند مأثم الزوج عمر المعطاوي الذي أبدعت كريمته سلمى في تشخيص موقف البكاء على الوالد بحرقة ودموع ساخنة ونحيب مقنع فيما جاءت “احليمة” بعينين متلألئتين بالطمع في الثروة والتشفي في “البتول” ضرة بنتها “هند”، كأنما لا روح إنسانية في جسدها الأهيف الذي أوقفه المخرج في جلباب مغربي ذي ألوان زاهية مستبشرة داخل جو مُتَّشح بالسواد حزينا منهارا أمام جبروت الموت… كما فصل المسلسل “الشيخة حليمة” بغير سابقة عن مجموعتها وصديقة عمرها ورفيقة تجربتها “جميلة” التي ضحت بنفسها من أجل التاريخ المشترك ولمصلحة المستقبل، فحملت وزر عقوبة السجن بدلا عن “احليمة” في موقف تضامني فشل (لمكتوب) في استثماره قيمة تصدم خيال المتلقي بخلخلة كل المواقف المسبقة لديه عن مجتمع الشيخات لاسيما وأن “جميلة” أعلنت صراحة وبوضوح أنها لا تنتظر ولا تحتاج نظير تضحيتها بدلا عرضه عليها المحامي.
(يتبع …)