د. التجاني بولعوالي ـ
على مرآى من العالم أقدم زعيم حركة الخط المتشدد اليمينية المتطرفة، راسموس بالودان على حرق المصحف الكريم أمام مقر السفارة التركية بالعاصمة السويدية ستوكهولم، وذلك يوم السبت 21 يناير 2023، وليست هذه المرة الأولى التي يُحرق فيها راسموس القرآن، بل صار هذا الفعل الشنيع تقليدا يقدم عليه كل مرة لاستفزاز مشاعر المسلمين، والتعبير عن إيديولوجيته الشعبوية التي ترفض وجود الإسلام على الأراضي السويدية، وتدعو إلى إجلاء كل ما هو إسلامي من أوروبا والغرب. وكما العادة استنكرت مختلف الدول العربية والإسلامية هذه الإهانة الدنيئة لأعظم مقدس إسلامي على الإطلاق، والذي هو القرآن الكريم، دون اتخاذ خطوات قانونية ودبلوماسية واقتصادية حاسمة وفعالة.
وقد تداعى بنا هذا الحدث إلى سنة 2008 التي شهدت واقعة غريبة، تتحدد في رسم كاريكاتيري أساء إلى شخصية المسيح عليه السلام، فسبب موجة غضب لدى بعض المسيحيين الهولنديين. وقد نُشر هذا الكاريكاتير الساخر في جريدة هولندية محلية، وهي Wereldregio التي تصدر في إحدى الجزر الهولندية الواقعة في منطقة بحر الجنوب، وتحديدا في الشق الغربي من جنوب هولندا، وتدعى جزيرة Schouwen-Duivenland، وقد رسم هذا الكاريكاتير الفنان الهولندي أري رون دون أن ينوي الإساءة من خلاله إلى المسيحية أو إلى أي رمز من رموزها المقدسة، لذلك تفاجأ باستنكار ثلة من المواطنين المسيحيين لهذا الرسم الكاريكاتيري، الذي تم التقدم به لمنحة مادية تقدر بـ 750 يورو، خصصتها بلدية Schouwen-Duivenland لإحياء ذكرى مرور 400 عام على سياسة الإصلاح الكنسي. ويمكن الاطلاع على مقالة رأي كتبناها آنذاك على الرابط: https://bit.ly/3HVoS8h
إن نازلة، أو بالأحرى جريمة حرق القرآن الكريم الأخيرة أساءت إلى حوالي مليارين من المسلمين في خرق سافر، لاسيما للمادة 20 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تنص على أن القانون يحظر “أي دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضاً على التمييز أو العداء أو العنف”. وعلى إثر ذلك، سجلنا الملاحظات الثلاث الآتية:
أولا: إن أحزاب اليمين المتطرف والحركات الشعبوية تعتمد مختلف الآليات للإساءة إلى الإسلام والمسلمين، كالتضييق على المحجبات، وإلقاء القاذورات أمام أبواب المساجد، والهجومات القاتلة على المسلمين، وحرق القرآن الكريم. وفيما يتعلق بعملية الحرق التي طالت المصحف الشريف، فقد سبق لهذا اليميني المتطرف أن أقدم على ذلك مرارا وتكرارا. كما أننا نستحضر في هذا الصدد حدث حرق القرآن الكريم في مارس 2011 من قبل أتباع القسيس تيري جونز في موابيري بفلوريدا، وقد حاول إعادة التجربة نفسها سنة 2013 في الذكرى الثانية عشر لهجمات 11 سبتمبر، لكن تم القبض عليه وفي حوزته 2998 مصحفا كان قد قرر إحراقها. لذلك فإن هذه الإساءة ليست الأولى من نوعها، ونعتقد أنها سوف لن تكون الأخيرة في ظل السكوت القانوني الغربي على مثل هذه الممارسات التي تتعارض وقيم الحداثة والتعددية والديمقراطية الغربية.
ثانيا: تكتفي بعض البلدان والمؤسسات الغربية بشجب أعمال الإساءة التي يتعرض إليها المسلمون، تماما كما صنع رئيس وزراء السويد الذي اكتفى بالإدانة الشكلية، معتبرا “حرق كتب تمثل قدسية للكثيرين عمل مشين للغاية”، كما عبر عن تعاطفه مع المسلمين. لكن هذا لا يكفي أمام تكرار مثل هذه الممارسات التي تهدد استقرار الشرائح المسلمة في أوروبا والغرب وطمأنينتها النفسية. هناك قوانين دولية صارمة تنتظر التنزيل الواقعي عبر تجريم مثل هذه الإساءات بغض النظر عن الطرف الذي تصدر عنه، غير أنه للأسف الشديد عادة ما يتم إخلاء ساحة الجاني إذا كان غربيا بدعوى حرية التعبير أو أنه يعاني من مرض سيكولوجي أجبره على ارتكاب ما ارتكب. أما إذا كان الفاعل مسلما فعادة ما يؤول الفعل بأنه إرهاب أو تهديد لأمن المجتمع. وما يؤكد هذا، هو أن راسموس لم ينفذ فعلته إلا بعد أن تلقى تصريحا رسميا من السلطات الرسمية يسمح له بالقيام بذلك، وبحضور رجال الشرطة.
ثالثا: يكشف إقدام بعض اليمينيين المتطرفين على حرق القرآن عن أزمة عارمة يتخبط فيها هذا التيار السياسي أمام الامتداد الإسلامي سواء عبر العالم أو في أوروبا. ورغم المحاولات اليائسة التي يقومون بها، لم يتمكنوا من الحد من حضور الإسلام ومن تمتعه بالقبول الحسن في شتى الأوساط الأوروبية والغربية، حيث يهتدي الآلاف من الغربيين إلى الإسلام، ومن بينهم المئات من الذين كانوا محسوبين على اليمين المتطرف نفسه. لذلك، فإن هؤلاء يجب أن يُشفق عليهم لعجزهم العارم في الرد على حقائق القرآن الكريم بالأدلة الدامغة بدل الحرق والتمزيق والإساءة. وقد رأينا كيف انقلب يورام فان كلافرن، رفيق درب اليميني المتطرف خيرت فيلدرز من عدو لدود للإسلام والمسلمين، كان يرافع من أجل إجلاء القرآن الكريم من هولندا، إلى مدافع شرس عن الإسلام والقرآن الكريم والنبي محمد صلى الله عليه وسلم. {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ۚ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}، فصلت، 34.