أقرأ الجريدة ثمّ أتركها في المقهى وأغادر. فليس من داعٍ لأكدّس البيت بأخبار وكوارث الوطن والعالم التي تتجدّد على مدار الساعة. فقط أحتفظ بالملاحق الثقافية على أمل إعادة قراءة مقال أو قصيدة. هكذا، بحسن النيّة، تتكدّس الملاحق في البيت وتصير هضابًا محترمة من الأوراق؛ فلعلّها هضابٌ حقيقية ترعى فوق رؤوسها قطعان الغيوم أو هضاب من الأدوية على حافة سرير المريض.
أستعمل هذه الملاحق في الأغراض المنزلية؛ في تقشير الخضر بالتحديد. أحبّ أن أفرش أوراق الجريدة على الطاولة فأبدأ المهمة بسكين حنونة. أشعر بالغربة والبرد في ديسمبر فأتأسّى بهذه الوجوه الجميلة ولو من وراء قشور. أستأنس بشاعر أعرفه ويعرفني فأحييه بطرف السكين بينما يظل هو صامتًا قبل أن يختفي وسط ضمادات البطاطس؛ هذا جيد كي تعرف أن العالم قد تغيّر يا صديقي، وتغيرت معه طريقة كتابة الشعر ومطالب القرّاء وماتت أجيال وجاءت أجيال، ونفقت وحوش الصّحراء وجاء تجارٌ وصيارفة فاستبدلنا السرادق بصناديق الشقق وأعمدة العمارات، وماتت سعاد التي تتلوى في قماشٍ وسط هودج يمشي محمولًا على سنم الجمل فجاءت أخرى تمشي سافرةً في الأسواق وعلى الرصيف.
يطل أيضًا ناقد أدبي يكتب عن الشّعر فأواصل التقشير بسرعة، إلى أن يختفي رأسه وسط زغب الجزر. هذا جيد كي تصمت يا فردًا من جمارك الشّعر؛ نحن جيل العطش ونقع الزوابع التي تتحرك في الأطراف ولسنا في حاجة إلى شهود زور ولا إلى حضوركم الثقيل الذي امتد إلى كلّ الأماكن حتّى قسّمتم وطن الشِّعر إلى صدر وعجز؛ إلى موالين ومارقين. لماذا لا تموتون بسرعة فتتركوننا نتحاكم فيما بيننا بالمجاز والاستعارة! أفسحوا الطريق سريعًا يا كهنة المعابد، فهناك جيل بأكمله ينتظر!
تطل أيضًا شاعرة رقيقة فأتوقف وأقرأ. هذا جيد يا أختاه في هذا الليل البهيم، على الأقل أنتِ واضحة وصريحة جدّا مقارنة مع آخرين، بل أنتِ على المباشر مثل مراسل حربي يتساقط الرذاذ من فمه وعدد الضحايا جواره. نعم، إنّ كتابة الشعر مهمة سهلة؛ يكفي أن تتمددي على الأريكة ساعة قبل النوم ويصير كلّ شيء متاحًا؛ القصيدة والنِصاب القانوني في صفّ الرجال والشهرة. أحبك حتى حين يسيل ماء الطماطم على ملامحك الرومانسية، إنّ الهشاشة في الشبيه والقرين!
يطل آخر وآخر، ويسير كلّ شيء في البيت وفق ما هو مطلوب وأنا أساعد مذيع نشرة الأخبار في ضبط عدد ضحايا حرب غزة. أو لنقل بصراحة الحرب على غزة ما دام الكل يريد مسح سكّان فلسطين من الخريطة في أسرع وقت ممكن. ويؤازرني صوت في الجوار: إلى أين نذهب وهنا أرضنا وبحرنا وقمحنا، ومن لا أرض له لا بحر له؟ فلعلّه الشّاعر محمود درويش في مطلع قصيدة.
تسير أمور المطبخ بالحدس ودون أن انتبه. المهم فرغتُ من تقشير الخضر ثمّ وضعتها في طنجرة وخنقتُ الخضر وسط التوابل والملوّنات ثمّ ضبطت النار على إيقاع بطيء وجلست أنتظر. هناك أيضًا من ينتظر في أكثر مكان، وهناك من يجدّ كلّ يوم في خنق صوت الطفل الفلسطيني، ومع ذلك تستمر المظاهرات والاحتجاجات في الساحات العمومية وفي الشوارع وعلى جدران الفيسبوك، وفي العواصم العربية والغربية على السواء. ويتدخّل صوت أجشّ على الخط: لماذا لا تطرقوا جدران الخزان؟ لماذا؟ فلعلّه غسان كنفاني يغلق روايته القصيرة فيركب سيارته لينفجرَ رأسه في الهواء وأطراف السيّارة.
يمرّ وقتٌ قصير فتعلو رائحة الطبيخ فتتسلل على أصابع الأقدام إلى الصالون. ويصير كل شيء ملتفًا حول الطاولة : الشعراء والمحتجّون والرائحة والطبّاخ الأعزب، أتركهم يتخاصمون ثم أذهب لأغلقَ قارورة الغاز وأفرغ الخضر في صحنٍ أبيض، لا أحبّ صحون الطاووس الملوّنة بالأصباغ حيث أتوهم أنّ الصباغة تتآكل وتختلط بالمرق؛ أنّ أحدهم يتقصّد قتلي من حيث لا يدري. أتملّى هضبة الخضر والمرق الأحمر يسيل عند أقدامها كدماء المغدور ثمّ أتوهم أني أكلت فشبعت ثمّ أعيد الطعام إلى الطنجرة. لا أستطيع أن أتناول طعامي وسط مستطيلات القبور ولا أن أرتدي ملابس الموتى.
وحدها القهوة تسمح لي بأن أتصالح مع أعصابي وأتعرّف على الأشياء عن قرب حين أريد. بينما الشاي يفرّخُ القمل في رأسي، ولقد أقلعت عنه بعد حصولي على الشهادة الابتدائية. نغيّر أفكارنا ونستدير بسرعة وبلا أسفٍ حين يصير ذلك ممكنًا. أمّا كوكا كولا فتجعلني هشًّا وأتعاطف مع أمريكا بلا مبرّر واضح. أمريكا البيت الأبيض التي تقصف بلدًا بالصواريخ وترمي آخر بالخبز والمعلّبات. أمريكا وحشد من السّود يرفل في الأغلال على ظهر باخرة.
أرتشف القهوة وأفكر في من يعاتب على لغتي الخشنة، ويقول بأنها تحتاج إلى ليونةٍ وكأني الشّاعر أحمد شوقي يتمشى في حديقة قصر الخديوي اسماعيل بلا مشكلة. أنا من هنا حيث جدتي وصيفة الأرض ولست بالأمير ولا مهتمًا بشيء ولا بإرث حين أعطف مفردًا على جمعٍ. أجرّ ورائي التاريخ مدببًا كحبّات الجزر التي قشّرتها أعلاه، والجغرافيا وتجاعيدها على الخريطة وقد انطلقتُ أركض من بحيرة الوجود إلى هناك أسفل الخريطة ثم صعودًا إلى هنا دون أشتكي لمظلمةٍ أو لمتاعب الطريق. لقد تحرّكت بوصلة الاتجاهات في رأسي وهي تهبط وتعلو مثل أنفاس الفقير ودون أن يتغير رأيكم في الشّعر يا صديقي. الرحمة على أبي العلاء وهو يبصر في الظلام ما عجزنا نحن العمياء عن إبصاره تحت الأضواء الكاشفة. وتحية لروحك الشفيفة يا صديقي رامبو وقد قلتَ كلّ شيء في أسرع وقتٍ ثم انحدرت إلى عدن ووصلتَ إثيوبيا تجرّ ساقًا وتوزّع البنّ على الغرباء، وقد تركت الناس يختصمون حول شعرك في باريس.
فرغت من قراءة الجريدة ثم تركتها كالعادة فوق طاولة المقهى، ثمّ غادرت مطوقًا بالشعراء والمحتجين وبمقدم نشرة الأخبار ورائحة الموتى.