تكررت مؤخرا التصريحات الموريتانية حول الموقف من قضية الصحراء، و إن لم تخرج عن عبارة “الحياد الايجابي”.حياد موريتانيا في التعاطي مع نزاع الصحراءليس بجديد. و يعود الى أواخر عام 1979 منذ أن خرجت من حرب الصحراء، ونأت بنفسها عن تجاذباتها الاقليمية، محافظة على علاقة ودية مع جميع الاطراف. الجديد هو كثرة التذكير به في الفترة الأخيرة.و تعزى أسباب تذكير موريتانيا لاكثر من مرة بحيادها الايجابي فيما يتعلق بنزاع الصحراء، الى التطورات التي أعقبت أزمة الكركرات في 2020، و التغير الكبير في الوضع الجيو-استراتيجي على حدودها الشمالية.
فمن جهة اتصلت حدود المغرب السيادية باراضيها لأول مرة منذ استقلال البلدين، وانتهى عمليا وواقعيا ما كان يسمى بالمنطقة العازلة التي كانت تفصلها عن المغرب. و هو واقع وضع موريتانيا أمام تحدي حق المغرب في ممارسة كامل سيادته على أراضيه، وما يترتب على جيرته من إحترام لممارسته لذلك الحق.
وكانت موريتانيا الحيادية تعترف ضمنيا لكل طرف بما يحوزه من الاراضي الصحراوية المتنازع عليها و تتعامل معه كما لو كان هو صاحب السيادة، رغم تشبثها بمحددات النزاع الاممية. و من ذلك انها كانت المبادرة الى فتح خط تجاري بري بينها و بين المغرب عبر ثغرة في “الكركرات” بداية الالفية بطلب من الرئيس “معاوية ولد سيداحمد الطايع”، و بتفاهمات ثنائية مع المغرب و جبهة البوليساريو.
لكن في 13 نوفمبر 2020 تغير الوضع، بعد أن أصبحت الثغرة حدودا بعشرات الكيلومترات تحت سيطرة و إدارة و سيادة المغرب لا شريك معه فيها كما كان من قبل. و هو واقع جديد يحتاج المغرب من موريتانيا الاعتراف به، إن لم يكن بالرؤية المغربية، فعلى الأقل تستمر موريتانيا على نهجها القديم الذي يحترم لكل طرف ما حاز من أراضي الصحراء، و تتعامل مع المغرب كما كان من قبل على انه صاحب السيادة على الاراضي غرب الحزام لحين التوصل لتسوية نهائية. تصطدم هذه الرغبة المغربية مع إعتراضات خصومه في النزاع جبهة البوليساريو و الجزائر، الذين يكررون في كل مناسبة أنهم يرفضون ما يسمونه “سياسة الامر الواقع” التي يريد المغرب فرضها على المنطقة.
وكأنهم بذلك يطالبون موريتانيا أن تمارس دور الشرطي على المغرب فلا تتجاوز تعاملاتها معه فوق ما تحمله الشاحنات المغربية التي تعبر الكركرات كما كان الحال من قبل.بينما يريد المغرب ان يوسع شراكاته مع موريتانيا و دول إفريقيا الغربية تحت عنوان”رابح رابح” لتشمل مجالات أخرى كالكهرباء الذي يحتاج ربط للشبكة المغربية مع الشبكة الموريتانية، وكابل الالياف البصرية البري، والأهم مرور أنبوب الغاز النيجيري عبر يابسة او مياه الصحراء نحو اوروبا، إذا افضت المفاوضات الجارية الى اختيار الطريق الساحلي المار عبر المغرب عوض الطريق الصحراوي الذي تشتغل الجزائر في التسويق له. فضلا عن المفاوضات التي وصلت مراحل متقدمة بين المغرب و اسبانيا حول ترسيم الحدود البحرية بين البلدين التي سهل دعم الحكومة الاسبانية لمقترح الحكم الذاتي في الصحراء تحت السيادة المغربية قرب التوصل لتفاهمات بشانها و ستشمل حتما سواحل لكويرة التي تعتبر نقطة ذات حساسية خاصة لدى موريتانيا لارتباطها بعاصمتها الاقتصادية، ما يفرض عليها قدرا من المرونة في تعاطيها مع الواقع الجديد بسبب تشابك وترابط الملفات.
من جهة أخرى تعلم جبهة البوليساريو التي أعلنت التنصل من إتفاقية وقف إطلاق النار و العودة للكفاح المسلح منذ 13 نوفمبر 2020، أن حربها لا غنى لها عن موريتانيا التي تفصل أراضيها بين شمال و جنوب المناطق شرق الحزام التي تعتبرها الجبهة “محررة” و تتواجد بها قواعدها العسكرية.ففي عام 1984 استكمل المغرب تشييد الشطر الثاني من حزامه الدفاعي مرورا بالحدود الموريتانية قرب بلدة “بير ام أغرين” شمال موريتانيا مقسما المناطق الصحراوية شرق الحزام من جهة قطاع “آمكالا” الى شطرين. وكان ذلك الإجراء المغربي من أسباب إعتراف موريتانيا ب”الجمهورية الصحراوية” العضو الجديد في منظمة الوحدة الافريقية أنذاك، كي لا تضطر لممارسة دور الشرطي على قوات البوليساريو وتمنعها من عبور أراضيها نحو نقاط تمركزات قطاعاتهم العسكرية في جنوب الصحراء (ميجك، آغوينيت، الدوكج)، كما يرغب المغرب.
ومن سخرية القدر أن جبهة البوليساريو تريد اليوم من موريتانيا أن تلعب دور الشرطي ضد المغرب، وهي أحوج ما تكون لموريتانيا في حربها المعلنة منذ 13 نوفمبر. فبسبب التفوق الجوي و التقني المغربي. و سيطرته بشكل شبه كامل على المناطق شرق الحزام. و جدت قوات الجبهة أن حاجتها لأن تغض موريتانيا الطرف عن عبورها الاراضي الموريتانية بات أكثر ضرورة من ذي قبل.
و أمام تحديات و إكراهات مستجدات نزاع الصحراء الميدانية، لا تريد موريتانيا “غزواني” ان تكون هي الحلقة الاضعف كما كان الحال في حرب الصحراء الاولى، لذلك تتمسك بحيادها الايجابي، مستثمرة في نقطة قوتها المتمثلة في موقعها الاستراتيجي، باعتبارها البلد الوحيد الذي له حدود مع كافة أطراف النزاع.
وباعتبارها بوابة دول شمال المنطقة المتصارعة و نقطة عبور سلعهم نحو أسواق الجنوب الافريقية. ما يجعل من حاجة الاطراف إليها أكثر من حاجتها لهم، أو على الاقل تجعلهم سواء. وتريد موريتانيا الاستفادة بأقصى قدر ممكن من الفرص التي يتيحها لها موقعها الجغرافي بين جيرانها المتنافسين، و استغلالها في تنمية وتقوية المصالح المشتركة بسلاسة لا ترقى لدرجة التورط باي شكل من الاشكال في نزاعاتهم. وهو ما يطلق عليه الساسة الموريتانيون حياد ايجابي. لا يرضي أطراف النزاع أغلب الأحيان.و قبل التسوية النهائية للملف سيظل الحياد الموريتاني يشكل عبئا على دول الشمال المتنازعة التي وجدت نفسها تتنافس ليس على الصحراء لوحدها، بل على موريتانيا أيضا التي جعلت منها التطورات الميدانية الاخيرة الحاجز الأخير أمام المغرب الكبير و خط دفاع جزائر القوة الضاربة الأخير.