ذ مصطفى المنوزي*:
بمناسبة متابعتي لأطوار افتتاح وانطلاق فعاليات الندوة الوطنية للتمرين، قرأت بتمعن وعناية، كلمة السيد الرئيس المنتدب للمجلس الأعلى للسلطة القضائية التي بسطها، بل أصحح وأقول وجهها إلى الزملاء المحامين والزميلات المحاميات في طور التمرين، كلمة ترقى إلى مستوى الخطاب، خطاب مؤسستي ، ولما لا ؟، فهي صادرة عن رئيس منتدب، عينه الملك ثم انتدبه بمقتضى صلاحيته الدستورية، فليس الأمر يتعلق بتفعيل القول المأثور ” نائبه كهو ” فقط ، وإنما بانتداب قانوني يمارَس في الحضور أو الغياب، بمثابة تفويض جارٍ دون توقف أو تردد.
وهناك رسائل و عبارات تؤكد أهمية الكلمة وتبرز دلالاتها الخطابية والبلاغية وأبعادها المعنوية و الرمزية، الأولى تذكر بسردية ” شرف ارتداء جلالة الملك لبذلة المحاماة “، على هامش انعقاد مؤتمر اتحاد المحامين العرب بالدار البيضاء يوم كان الفقيد النقيب إبراهيم السملالي يترأسه، وقد تشرف حينئذ بمساعدته على ارتدائها النقيب عبد الله درميش، وكم كنا سعداء كمحامين شبان ( شاءت الأقدار أننا كنا أعضاء في جمعية المحامين بالدارالبيضاء انتخبنا فيها شهورا فقط من انتقالنا من هيأة المحامين بأكادير (حاملا معي) صفة مؤسس وكاتب عام سابق لاتحاد المحامين الشبان بأكادير ).
كنا سعداء بتلك الواقعة المهنية والتاريخية والغنية المغزى والمعنى والمرمى، واعتبرناها ( الواقعة ) اعترافا وانصافا للمحاماة والمحامين، بما تعنيه من ملامح ومؤشرات مصالحة وقطيعة ثقافية مع الماضي الذي ينبغي أن يمضي في ظل طموح مجتمعي يروم تفعيل مفهوم جديد للعدل يعزز المفهوم الجديد للسلطة المعلن.
وقد دأبنا – وسنظل مصرين – على الاستدلال بالواقعة كلما انتهكت حرمة المحاماة في سياق مناهضة الشطط في استعمال السلطة او مواجهة التعسف في إنفاذ القانون Hو أي حق غير مشروع . وأما العبارة الثانية فهي تذكير السيد الرئيس المنتدب للمحامين المتمرين بضرورة وواجب احترام القضاء، وهذا تذكير وجب تثمينه وترصيد أبعاده الدستورية والمهنية، في سياق تحصين الحقيقة القضائية كلما اكتست قوة الشيء المقضى به، بعد النقد القانوني واستنفاذ كافة وسائل الطعن أو النقض القضائي، وهي قاعدة مبدئية يتضمنها قسم المهنة الذي اديناه امام العدالة ، وتصونها الممارسة الفضلى تطبيقا للأعراف والتقاليد المؤطرة لأخلاقيات المحاماة.
وإن السيد الرئيس المنتدب كان ناصحا صريحا في خطابه الحِجاجي وكذلك وفق اعتقاده الصميم ؛ ولا يسعنا – ونحن نتفاعل مع هذه العبارات الوجيهة وغيرها مما لم نستنتجه كإيجابيات تعضد صدق القصدية ونبل القضية ، إنْ حقيقةً أو مجازا حتى – لا يسعنا إلا أن نؤكد بأن الممارسة النبيلة السائدة كقاعدة إطلاقية للمحاميات والمحامين تتجاوز عتبة احترام القضاء إلى أسمى سقف، إلى حد التضحية بالغالي والنفيس من أجل ان يرتقي القضاء كجهاز إلى سلطة دستورية تنعم بالاستقلال القانوني والوظيفي عن بقية السلط، خاصة عن السلطة التنفيذية، والتي كان القضاء ذيليا لها خلال زمن الجمر، وها وطننا ينعم اليوم بتحقق المراد بل المطلب دستوريا وواقعيا، وقد “شهد” شاهد من أهلها، حيث يترأس السيد الرئيس المنتدب المجلس الأعلى للسلطة القضائية ، بعد الملك طبعا.
ولعل أعظم دليل في سياق إعمال المنطق الحِجاجي، وليس فقط المنطق البلاغي الذي تقتضيه المناسبة كشرط، في سياق أدب المجاملة والمحاباة، أن المحامين الشرفاء خاضوا معركة نبيلة، بمناسبة محاولة فرض الإدلاء بجواز التلقيح الإختياري ( غير الإجباري ) وذلك دفاعا عن استقلال السلطة القضائية ليس إلا، وكذا عن حرمة المحاكم وكرامة القضاء، وعن سمو القضاة وشرط ترفعهم عن مهمة تنفيذ قرارات الحكومة و هي إجراءات لا ترقى إلى قرارات صادرة اقترانا عن رأسي السلطة التنفيذية، حتى نتفهم النوايا الصافية للإرادة العليا للأمة وكذا حكمة المشرع الافتراضي.
ولأن العدالة موطن الإنسان فلم يكن من الداعي توريط السلطة القضائية في قضايا محض تدبيرية، اختص بعض “القضاة ” عن حسن نية في تنفيذها دون إدراك المستوى الذي رسم لهم في الخطة، بخلفية وسبل ردعية رافقها الاستعانة بالقوة العمومية ، تجاه محاميات و محامين يحبون القضاء والقضاة، في ذاتهم ولذاتهم ، ويقدرونهم ويحترمونهم، لأن من بخس أو احتقر مجهود القضاء كأنه احتقر وأهان المحاماة مؤسسة ومهنيين، لكن من حسن حظ منظومة عدالتنا انه وقع الاستدراك داخل أمد معقول، رغم بعض الممارسات الانتقامية المتسرعة التي، شذت عن السياق، استهدفت مآل الملفات دون مصير القضية، ولا يسعنا إلا اعتبار خطاب السلطة القضائية برقية إحتفاء ووفاء متبادلين وبمثابة رد الاعتبار لمؤسسة المحاماة وسلطة القضاء .
*رئيس اكاديمية الحكامة التشريعية والأمن