“حيث النور على أشده، يزداد الظل عمقا” يوهان غوته
الاجتياح العظيم لوسائط الاتصال الاجتماعي، وسرعة انتشارها وتأثيراتها المباشرة على المجتمع، تنبئ بتداعيات مخيفة، على جميع مستويات القيم والأخلاق والثقافة.
لقد أصبحت المادة الخبرية مجرد تحوير أو استثارة لشكل من أشكال المجتمع، غير بعيد عن فكرة الاستقطاب الجماعي لأحوال أو تعبيرات مجتمعية مفصولة تماما عن الواقع والأرض.
يستطيع هؤلاء، الذين تم تحويلهم إلى “أدوات مؤثرة”، أن يبرروا سبلا كثيرة للتحفيز على امتلاك سلطة رمزية كالإعلام، وأن يتمنطقوا بقوة الحضور الكمي في تلك الوسائط، وتحت أنظار المنظومة القانونية والدستورية للصحافة، حتى يتم لعوالمهم الخلفية ما أرادت، وأن يرفعوا هاماتهم عاليا، فوق ما تحتمل الخاصية الراهنية للبشرية.
المحتوى الإعلامي: تجنيس هجين
خلال العشرية الأخيرة من بداية الألفية الثالثة، صار الحديث عن الإعلام الجديد سبة في جبين منظومة القيم وأخلاقياتها. وتأكد بالملموس، كيف تتهافت قشور الفهم وغفائل العقول على المحتوى الفجائعي، وكيف تثرى النواقص المعتوهة، في بدن المجتمع، دون أن يحدث ذلك حلحلة أو خلخلة، ناهيك عن انعدام القدرة على تحديد أسئلة المشكلات المطروحة، ومدى تعاطينا مع أولويات حصرها وكسرها.
إن مفهوم الإعلام الجديد، من حيث كونه مظهرا متطورا في الدراسات الحديثة لعلوم الاتصال، ينماز عن سوسيولوجيا التحولات المعرفية، من حيث كونها حقلا تجريبيا حديث الولادة، وعملية اختراقية يتفاعل مع مكنوناتها المجتمع، وماهية المحركات الرئيسية والمصدرية، سيعمل على إعادة تشكيل الوعي بالمفاهيم الكبرى لقيم الاتصال ووجوب المعرفة به. كما أنه سينشغل طيلة مقامه، بين كل ما تخطط له سوسيولوجيا الإعلام من دراسة المجتمع وأنماط العلاقات الاجتماعية والتفاعل الاجتماعي وثقافة الحياة اليومية، إلى استخدام أساليب مختلفة من البحث التجريبي، والتحليل النقدي، لتطوير مجموعة من المعارف حول النظام الاجتماعي والقبول والتغيير أو التطور الاجتماعي. وهي الأنساق التي أحدثت قطيعة مع الهياكل الاجتماعية لأنماط الحياة والسلوكيات الفردية، ونمت أشكالا هشة من الأنشطة المكسوة بأثواب شفافة غير مأمونة، وسريعة السقوط.
لقد قوت نزعة “الجنون الافتراضي”، وانتزاع “علامات التمكين” و “استعارة القوة الوهمية”، من الفضاء الأزرق، أفرادا ومجموعات، تحول وجودها الافتراضي في مخيال الجماهير “المندسة” و”المقنعة”، إلى ما يشبه الديكتاتوريات المتسلطة، حيث ينجم عن تصديقها واتباعها، إغواء وتبعية، واسترخاص وتآكل قيمي من الداخل، ينتج عن كل ذلك أخيرا، إفراز نمط فريد من السلطة “المطلقة” دون قيود. وأضحت هذه النماذج “المؤثرة” بكل أبعادها المعرفية والدلالية، وجها من وجوه الاستبداد المجتمعي، وبموافقة المحكومين (العبيد)؟، ترتع كما تشاء، وتتفرعن أنى شاءت، ولا تمتثل البتة لأي مبدأ أو معيار أو مقياس.
المؤثرون: سوق النخاسة
وفي خضم ذلك، تتسابق كبريات الشركات والعلامات التجارية في الأسواق العالمية، من أجل تقديم تلكم النماذج، ظفرا بمغنمها الجماهيري والأضواء المسلطة عليها، حيث تعمد إلى تطويعها وتصميمها وفق قوالب من “الماركوتينغ” المطلوب، لتعرض لها جوانب من رغبات العملاء وتطوير مجموعة من المنتجات أو الخدمات التي تشبع رغباتهم وتحقق للمؤسسات المعنية أرباحا طائلة خلال فترة زمنية قياسية.
أما إذا قلبنا الصفحة، وتحدثنا عن مضان “الإعلام البديل” أو “المحتوى الإعلامي الأخلاقي”، فإن صرحا مريعا من التغييب والإهدار الزمني والتضييق المكشوف، يسائل الدولة في العمق، ويحمل لفيف المتدخلين في القطاع، مسؤولية وضعية تتأزم يوما بعد يوم، ومعاول هدم تشيع خنق “البديل” ، وتؤطر انحرافات المدسوسين وتتآمر في الخفاء لأجل استمرار تحطيم الهمم وتشميع المكاتب التي لا تجد حتى قوت يومها؟.
هذا هو إعلامنا: انظروا ما أنتم فاعلون؟
قليل ممن شاركوا في اللقاء الدراسي الذي أقيم مؤخرا بمجلس النواب حول “الإعلام الوطني والمجتمع: تحديات ورهانات المستقبل”، من حاول إثارة المشكلات الحقيقية حول أسباب وخلفيات تدهور الشأن الإعلامي الوطني، وانطفاء جذوته، واقتبال نوازع التحطيم بإزائه، رغم زوايا بعض مثالب النقاش الذي خصص لمستقبل الإعلام وما يشهده في ظل الطفرة الرقمية، وظهور أنماط أخرى للتواصل.
ممثلو الأمة يقرؤون ما تم حشوه في إسقاطات المقروء الثاوي للأزمة، والمهنيون يهيمون في بحر لجي، لا منطق يجمعهم، ولا جامع يعقد اتفاقهم. والكثير ممن يهتمون يضربون الكف بالكف، ويحوقلون كأن على رؤوسهم الطير؟.
بيد أن الخلاصات القاعدية التي أوصى به المجتمعون والمستمعون، والتي نشرتها الوسائل الإعلامية، ما ظهر منها وما بطن، والقاضية بضرورة توسيع مجال وقاعدة التكوين في مجال الإعلام، وتشجيع التكوين المستمر، مشددين، كذلك، على أهمية الاهتمام بالبحث العلمي الإعلامي ودعم مؤسساته، لن تكون الأخيرة في مضمار “قواميس الهرطقة وشحن العواطف” في قطاع يعرفه التلميذ الابتدائي قبل الصحفي المهني. فالأوضاع الآن، تحتاج لعملية جراحية مستعجلة وسريعة التهديف، فالعلاجات الإسعافية لن تؤدي الدور المأمول، والخراب قد حل فعلا، وترديد أناشيد الهزيمة لا يجدي ..
ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.