كما يمكن أن تكون للشخص أسطورته الشخصية التي يجسد من خلالها أهم مطامحه في الحياة، وأسمى ما يسعى إلى تحقيقه، يمكن لشعب ما أن يخلق له أسطورة شخصية خاصة به، ويعمل جاهدا، وفق خطط مدروسة، وإصرار دائم على نقلها من الحلم إلى الواقع. وقد تلعب عوامل ذاتية وموضوعية، بالنسبة للفرد أو الشعب، في نجاح تلك الأسطورة أو تعثرها، في الزمان والمكان.
تولدت الأسطورة الشخصية الصهيونية مع الاستعمار الذي عرفه المشرق والمغرب العربيان. وانبنت على أسطورة أرض الميعاد، وتكوين وطن لليهود في فلسطين، تضافرت شروط كثيرة لتحقيق هذه الأسطورة فلعب الاستعمار البريطاني دورا كبيرا في ذلك، مستغلا الظروف التي عملت على وضع حد للخلافة العثمانية، فكان تهجير اليهود من مختلف بقاع العالم، بإغرائهم بالفردوس المفقود في أرض الميعاد: إسرائيل الكبرى. ولكي يتحقق ذلك وجب، من جهة أولى دعم الدول الغربية، ولاسيما بعد الحرب الثانية، باستغلال المحرقة، واللاسامية. ومن جهة ثانية، ترحيل الفلسطينيين أصحاب الأرض بمختلف الأساليب التي تذهب من الإغواء والإغراء والكذب إلى استعمال العنف والتقتيل والتهجير بالقوة. فكانت النكبة وتلتها النكسة، وجاء اتفاق أوسلو، وتم قبر كل محاولات السلام الفلسطيني مع إسرائيل. ولم يكن مع الصيرورة، وقد صارت أمريكا تلعب الدور الذي لعبه الاستعمار التقليدي في دعم إسرائيل، سوى العمل على تأكيد تلك الأسطورة الشخصية الصهيونية، وقد صارت إسرائيل واقعا حقيقيا لا حلما يتم العمل على تحقيقه، كما كان متصورا في البدايات الأولى لتشكل هذه الأسطورة الشخصية.
تأسست أسطورة الشخصية الصهيونية على عدة أساطير، منها ما تجد أصوله في التوراة: شعب الله المختار المتميز عن كل الشعوب، وما تطور مع الزمن حول خصوصية اليهود في التاريخ، والذي استغلته الآلة الإعلامية التي يتحكم فيها اليهود عالميا، فسوَّقت صورة صارت نمطية يقر بها الجميع. من هذه الأساطير الجديدة: العبقرية اليهودية، والجيش الذي لا يقهر، وقدرة الموساد الإسرائيلي على اختراق كل ما يريد اختراقه، بالإضافة إلى ادعاء الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. وكان قوامها في كل ذلك امتلاك سلطة المال، والهيمنة الإعلامية، ودفع العالم إلى أن يكون إما مع الصهيونية، أو يعتبر ضد السامية عالميا.
دفع استغلال كل هذه الأساطير إلى تحقيق الأسطورة الشخصية الصهيونية إلى ممارسة العنصرية، وكراهية العرب والمسلمين، والعمل على استغلال ثروات المنطقة، والتحريض على التفرقة بين الفلسطينيين، والعرب، وداخل كل الأقطار العربية، وذلك عن طريق شراء الذمم، والدعاية ضد الإسلام، بدعوى الإرهاب. أحد الصهاينة فضح بعض أذنابه في المغرب، فحرضهم على الخروج للقول: «إنهم إسرائيليون» وأهانهم أيما إهانة، وكانوا يقدمون أنفسهم على أنهم علمانيون، وتنويريون؟.
أمام تطور الأسطورة الشخصية الصهيونية يمكننا التساؤل: هل كانت للعرب أسطورتهم الشخصية في العصر الحديث؟ الجواب نعم، عندما كانوا يناضلون من أجل الاستقلال عن الدول التي استعمرتهم، وهي فرنسا وبريطانيا وإيطاليا وإسبانيا. لكن الاستقلالات التي حصلت عليها الأقطار العربية اتخذت بعدا وطنيا يتقيد بالحدود التي رسمها الاستعمار. وجاءت المطالبة بتوحيد الأقطار العربية بعد تلك الاستقلالات، فكانت شعارات الوحدة العربية ترفعها بعض الدول العربية التي وقعت فيها انقلابات عسكرية وتبنت الانحياز إلى المنظومة الشرقية من خلال الربط بين الوحدة والحرية والاشتراكية. في الوقت نفسه ظلت دول عربية أخرى تسير وفق المنظومة الغربية، فصار الصراع العربي بين الاتجاهين المتقاطبين عالميا إبان الحرب الباردة. فكان هذا الاختلاف بداية تصدع أسطورة شخصية عربية موحدة، وصار بالإمكان الحديث عن «أسطورة شخصية وطنية» تتحكم فيها الحكومات المتعاقبة، وصارت كل مهامها استنزاف خيرات شعوبها، فغابت الديمقراطية، ومورس العنف ضد أي محاولة للتغيير.
بات الصراع الداخلي في كل قطر عربي يميل إلى الانحياز إلى هذا النظام أو ذاك. وساهم المثقفون في هذا الصراع، فهيمن الانقسام بين التراث والمعاصرة، أو بين التقليد والحداثة، إلى جانب الاختلاف بين الأنظمة الرجعية والتقدمية، وبلغ الصراع أوجه إلى حد الاقتتال.
بعد سقوط جدار برلين تراجع المد الاشتراكي وظهر الإرهاب، وبرزت الطائفية والعرقية، بل معاداة المطالبة بالوحدة العربية تحت تأثير الحرب على كل ما هو عربي وإسلامي. وجاء الربيع العربي فبرزت أسطورة شخصية شعبية مشتركة تطالب بالحرية والديمقراطية. فجوبهت بالقمع، وباستغلال الظرف لنشر الطائفية والنزعات العرقية التي تتواطأ مع إسرائيل، وتنفيذ مخططاتها في المنطقة. فتفشى الصراع بين الشيعة والسنة، وخلقت محاور عربية تكرس الفرقة بالانتصار إلى أطراف ضد أخرى. جاء طوفان الأقصى لتجديد الأسطورة الشخصية الفلسطينية التي تكرست خلال كل النضال ضد الأسطورة الشخصية الصهيونية، وإن تعرضت في مسيرتها للنضوب، بسبب الصراعات الهامشية. كما أنه جاء لتأكيد أن الأسطورة الشخصية العربية في التحرر من تبعات الاستعمار والإمبريالية وفي العيش الكريم لا يمكنها أن تموت. وكان لمشاركة الجماهير العربية في كل الأقطار العربية أكثر من دلالة في أن تلك الأسطورة ستظل قائمة، وأن قدر العرب في وحدتهم ضد كل ما يهدد الوجود، والحياة الكريمة.