قد ينام المستبد ومغتصب الحقوق مُنعَما بما حققه من انتصارات في كل زمان ومكان، لكن الدرس الأبدي الذي يقدمه لنا تاريخ البشرية أن نهاية كل ظالم ستؤول إلى زوال، مهما طالت مدة الاغتصاب، وامتد أمد الاحتلال. ولنا في تاريخ الاستعمار الغربي أمثلة دالة، وما محاولة بعض الدول الافريقية مؤخرا فك ارتباطاتها بفرنسا الاستعمارية، ورغبتها في التخلص من ربقتها سوى دليل على ذلك، لا يمكن أن يخرج تاريخ إسرائيل عن هذا الدرس الأبدي ما لم تغير إسرائيل مواقفها وعداءها الدائم للفلسطينيين، وما لم ترضخ لمطالب الشعب الفلسطيني العادلة، ولمقررات المنتظم الدولي حول الدولتين.
قُدمت إسرائيل في طبق من ذهب من لدن الاستعمار البريطاني، بعد أن تم تقسيم أوصال الوطن العربي، وحققت بذلك كل المطامح التي ظل الاستعمار والإمبريالية الأمريكية يعملان من أجلها طوال العصر الحديث، ضد إرادة الأمة العربية والإسلامية.. خاضت حروبا، واكتسبت المزيد من الأراضي خلال حرب 1967. وجاءت حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 لتبين أن بالإمكان دحر الآلة الجهنمية الصهيونية، وإن لم تؤد إلى ما كان بالإمكان فرضه، لنكون أمام تحول حقيقي في المعادلة الفلسطينية الإسرائيلية. كان الترحيب الفلسطيني باتفاق أوسلو، وتبدد وهم أن إسرائيل دولة ديمقراطية، ويمكن التعايش معها. وكان لتدمير العراق من لدن التحالف الغربي وإسرائيل دوره في إضعاف أي حس للمقاومة، أو التفكير في حرب عربية أخرى ضد إسرائيل. واستغلت مقولة الإرهاب لتعميق الجرح العربي، وتحييد القضية الفلسطينية من الوجود. لكن كل ذلك لم يمنع، بين الفينة والأخرى، من توجيه الفلسطينيين ضربات إلى الكيان الصهيوني، إعلانا وتأكيدا أن القضية لن تموت مهما كانت الظروف ما دام العدو الصهيوني متماديا في تدمير الشجر والبشر، وبناء المستوطنات، وتدنيس المقدسات، والتغني بأن إسرائيل قوة لا تقهر، وليذهب الفلسطينيون إلى الجحيم.
كانت تلك الضربات تربك إسرائيل بين الفينة والأخرى وتؤكد لها أن المغتصبة أرضه، والمعرض للظلم والاستبداد والقهر، لا ينام، وإن فعل فهو متيقظ أبدا، ومستعد دائما لردود فعل، وإن لم تكن ذات أهمية قصوى، فإنها على الأقل تبين أنه ما يزال هنا متربصا ومنغصا. قد يرد عليها العدو المعروف بغطرسته وعجرفته وإمكاناته العسكرية والتكنولوجية، ودعم الغرب له، وعلى رأسها أمريكا، بكل الوسائل اللوجستية، وبالمواقف الداعمة له في مختلف المحافل الدولية بكل ما أوتي من همجية وعنف وانتقام لا مثيل له. ويتوهم بذلك أنه باق، وسينام ملء جفنيه، ما دام يحقق مكتسبات ظل يراوده حلم تحقيقها منذ أن فرض نفسه على أراضي غيره.
جاء طوفان الأقصى ليكون استثناء، وتأكيدا على أن القضية لن تموت مهما كان التواطؤ، وكان التجاهل، وكان الدعم المشروط واللامشروط للدولة الإسرائيلية ومخططاتها الإجرامية. جاء طوفان الأقصى لينبه أن الأسوار المنيعة قابلة للاختراق من قبل القلوب القوية، وأنها لن تحمي من بناها لتقيها ممن اقتلعتهم من جذورهم. جاء طوفان الأقصى ليدعم أن الضربات المتواترة، وذات التأثير المحدود والمؤقت لا يمكن أن تتولد عنها إلا حرب حقيقية، كما يريدونها، وستتوالى الضربات والحروب حتى يتحقق الدرس الأبدي. وستظل إسرائيل تتوعد وتحقق وعيدها بالانتقامات الوحشية التي لا ترحم، وتعمل على جعل غزة سجنا كبيرا لشعب بكامله، وتدمر الأبراج، والبنى التحتية، والمساكن على قاطنيها. ولإسرائيل تاريخ إجرامي فظيع، والذي يقابله الغرب المتوحش بتبرير أنه «دفاع عن النفس». إن ادعاء أن الصراع بين إسرائيل وحماس، وليس بين دولة احتلال، وشعب يناضل من أجل حقوقه المغتصبة، باطل تاريخيا وواقعيا. وهو يوظف لتسويغ كون إسرائيل مستهدفة من المتطرفين. إنها الوقاحة اللغوية التي تزيف الوقائع، وتبرز الجلاد على أنه الضحية، ألم تكن هذه هي لغة الاستعمار البربري ضد كل أشكال المقاومة في الأراضي التي احتلها؟
لا عجب إذن في أن يصرح الغرب وأمريكا بنبرة استعلائية أنهم ضد حماس، وضد احتجاز «المدنيين». أليس هؤلاء المدنيون هم من ينتخب كل الحكومات المتعاقبة؟ أليسوا هم المتطرفين الذين يقتحمون الأقصى، ويدنسونه، ويستبيحون الأرواح، والدولة تحميهم؟ ما موقف الغرب وأمريكا من كل العمليات التي يدعون أنها دفاع عن النفس، من اقتحام غزة والضفة واعتقال عشرات الفلسطينيين الذين تضج بهم سجونها، دون أن يعبروا عن الاستنكار أو الإدانة؟ أليس في غزة مدنيون، وعجائز، وأطفال مدارس، ومرضى مستشفيات؟ من يتحدث عنهم وهم المعرضون للدمار الشامل الذي تلحقه بهم تلك الآلة الجهنمية منذ سبعين عاما؟
إدانة طوفان الأقصى لا تختلف عن مقولة ضبط النفس، ومتابعة ما يجري بقلق. من أحق بضبط النفس المعتدي الذي يتوعد بمسح غزة من الوجود؟ أم المحروم من حقه في الحياة، والمعرض وجوده للاستنزاف، والتمييز العنصري؟ متى يستيقظ الضمير العالمي، ويستوعب الشعب الإسرائيلي الحقيقة؟ ومتى يتجاوز العرب، سواء كانوا مع التطبيع أو ضده، والفلسطينيون خلافاتهم؟ ما دور هذه المواقف المتناقضة في حل المعضلة الفلسطينية؟ يؤكد الدرس الأبدي أنه لا يضيع حق وراءه طالب. والحق أبلج والسيوف عوار.