بنيت دعوى إقامة إسرائيل الكبرى على أسطورة أرض الميعاد من خلال وعد بلفور، وكان الأوان نكبة 1948، وجاء القرار على إثر نكسة 1967، واعتبر نفاذ الدعوى من خلال اتفاق أوسلو، والدعوة إلى التطبيع مع الدول العربية إعلانا لتحقق جزء من الدعوى، في انتظار ظروف أخرى لاستكمال إسرائيل الكبرى. هذا هو البرنامج السردي الذي بنيت عليه سردية الصهيونية، وهو ما عاينا تطوره منذ بداية القرن الماضي حتى الآن.
لم يقف السيميائيون الغريماسيون إلا على هذا البرنامج السردي، الذي بني على أساس ما تقدمه الأعمال السردية المنتهية بتحقق رغبة ذات فاعلية في المجرى الحكائي. لكن تأملنا في العمل السردي المبني على قصة، يكشف لنا بالملموس أن هناك برنامجا آخر نقيضا للبرنامج المتحقق، وأن ظروف تطور القصة حال دون إنجازه لأسباب متعددة. فمقابل البرنامج السردي للصهيونية، كان ثمة برنامج عربي نقيض، لكنه في صيرورته لم يتحقق. كانت دعوى هذا البرنامج: «رمي إسرائيل في البحر». لم يفلح العرب والفلسطينيون في تحقيق برنامجهم، وكان لإسرائيل أن تأسست، وقوضت أحلام الفلسطينيين في تحرير الأرض.
وتوالت دعوات السلام التي لم يتحقق أي منها، وانتهى اتفاق أوسلو إلى الطريق المسدود. وكان لتفريق فلسطين إلى ضفة وقطاع على مرمى من السلطات الإسرائيلية، دوره في إشاعة الفرقة بين الفلسطينيين، والاستمرار في تقويض أي دعوة إلى السلام، وفق مقتضيات المحافل الدولية، لكن البرنامج السردي للدعوى اليهودية لم يتحقق بالمطلق ما دامت هناك مطالب للتحرر من ربقة الصهيونية من لدن الفلسطينيين.إن المقاومة في غزة ظلت بين الفينة والأخرى تعبر على أن هناك دعوى فلسطينية معارضة ومتواصلة. وكانت مهاجمتها للأهداف الصهيونية مقلقة لإسرائيل التي كانت تعتبر ما تقوم به المقاومة إجمالا عملا إرهابيا. وفي كل تدخلاتها القاسية والوحشية على القطاع كانت تعتبر ذلك دفاعا عن النفس، وكانت تلقى في ذلك كل الدعم من العامل المساعد، وعلى رأسه أمريكا والغرب.
إذا كان البرنامج السردي في نظرية غريماس أحاديا، بسبب تركيزه على ما يتحقق في قصة منتهية، فإن القصة في الواقع، وفي التاريخ يمكن أن تظل مستمرة ما لم تتحقق دعوى برنامج سردي بصورة نهائية ومطلقة، وكمون البرنامج النقيض، وتأهبه للسعي إلى التحقق في أوان مختلف. وفي هذه الحالة يمكننا النظر في ترهين البرنامج الذي لم يتحقق في مرحلة سابقة، وإمكانية انبنائه على دعوى سردية جديدة، واتباعه مسارا يسمح له بتحريك برنامجه نحو آفاق مختلفة ومفتوحة على خلق مسار حكائي مختلف. هذا ما نلحظه بصورة خاصة مع ما وقع في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023.
كان اختراق الجدار الأمني الإسرائيلي نهاية لبرنامج سردي، وبداية لبرنامج جديد، إنه نهاية لبداية قديمة. لقد أسقط أوان هذا البرنامج السردي الجديد أسطورة: الجيش الذي لا يقهر، وأسطورة نهاية السردية الفلسطينية، وأعاد القضية الفلسطينية إلى نقطة الصفر. وكما طرح العرب في بداية مواجهتهم لإسرائيل مقولة: «رمي إسرائيل إلى البحر» طرح نتنياهو مقولة: «إزالة غزة من الخريطة» والقضاء نهائيا على القضية الفلسطينية. وكان الإعلام الغربي والأمريكي مساعداً لإسرائيل وهي تعمل ليل نهار على تدمير غزة، وإلحاق الأذى الذي لا يمكن تخيله بالبنيات التحتية لها. كان سعار نتنياهو وهروبه إلى الأمام دليلا على الارتباك والفشل الذريع. لذلك لا غرو في أن نجده يذكرنا بنكبة 1948، ويتحدث عن «نكبة كبرى». لكن هذه النكبة الكبرى، وهي لا تقل وحشية عما مورس من تقتيل وتهجير للفلسطينيين، في كل تاريخ الصراع، بأقصى وأقسى الإمكانات التي تتوفر عليها إسرائيل تساندها في ذلك أقوى دولة في العالم بخبرائها وحاملات طائراتها، ووقوفها ضد أي قرار يخفف من معاناة الشعب الفلسطيني في غزة والضفة، لم تحل دون قرار البرنامج السردي الفلسطيني في العمل على تحقيق مساره السردي.
كل الحروب التي خاضتها الدول العربية والفلسطينيون ضد إسرائيل، في كل التاريخ كانت قصيرة، وخاطفة، وتحقق فوق كل ما كانت تتخيله القوى الصهيونية من نجاحات باهرة. مرت الآن أربعة أسابيع والمقاومة الفلسطينية في غزة برشقاتها تواجه الغارات الدائمة، برا وبحرا وجوا، ليل نهار، وتدعمها في ذلك مساندات أمريكية وغربية بتقديم الخبرة العسكرية والذخائر، إلى جانب الدعاية ضد حماس، واختزالها الصراع إلى أنه بين دولة ديمقراطية، ومجموعة من الإرهابيين إلى جانب الدعم النفسي.
إن هذا الصمود الفلسطيني غير المسبوق في مواجهة أعتى الجنود عنصرية وأكثرهم حقدا وغطرسة، ورغم كل ما تعرضت له غزة من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي لدليل قاطع على أننا أمام نهاية بداية الصهيونية، وبداية برنامج سردي جديد للقضية الفلسطينية. لقد أبرز هذا البرنامج السردي أننا أمام حقبة جديدة، ويبدو ذلك في إعادة فلسطين إلى واجهة السياسة العالمية، وإعادة الشعور الشعبي العربي الإسلامي، والضمير الإنساني الحي إلى تعرية الديمقراطية الغربية، وإظهارها على حقيقتها، إلى جانب خلخلة الوحدة الصهيونية، والعالمية، بإبراز أن القضية تحتاج إلى حل عادل.