كانت سنة 1926 سنة ظهور كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين، وهو الكتاب الذي أحدث رجة قوية في نفوس كل الغيورين على التراث العربي، وأحدث صدعا في ثقافتنا لم يصلح حتى اليوم.
تصدى لهذا الصدع كثيرون، ولكن كتب الله الخلود لرجلين من أعظم أهل البيان في العربية في القرون الأخيرة وإلى اليوم ،وهما الرافعي وشاكر.
أما الرافعي فقد زلزل طه حسين بكتابين كانا من شهب الله القاضية، وهما كتاب (تحت راية القرآن) وكتاب (إعجاز القرآن). وقد حاول طه التملص منهما بنسبتهما إلى الدين!!
وأما محمود محمد شاكر فبعد موقفه البطولي بمغادرة جامعة يدرس فيها أستاذ يسرق أفكار غيره، عكف على القراءة والدرس حتى مرت عشر سنين كاملة ، وفي سنة 1936 يصدر كتابا يعد أقوى صفعة تلقاها طه حسين في حياته، وهو كتاب ( المتنبي). لقد كان هذا الكتاب في بنائه العلمي المؤسس على فرضية وعلى مسالك الاستدلال المختلفة عليها أشبه ما يكون بأطروحة دكتوراه راقية تقدم في أرقى الجامعات،وفوق ذلك فقد قدم فيه منهجا جديدا في قراءة الشعر وفهمه لا يعرفه أهل عصره جميعا بما فيهم طه حسين، كان لهذا الكتاب وقع القنبلة المدوية في حصن طه حسين.
وأنا أظن أن طه حسين حين قرأه لم يستطع النوم، فها هو تلميذه القديم الغاضب منه يكبر ويقدم طرحا علميا جديدا سوف يمسح طه حسين من الساحة النقدية مسحا. أحس طه بالخطر وأدرك أنه إن سكت فقد انتهت أحلامه وأحلام من وراءه. فقرر التصدي لهذا الخطر بطريقة عجيبة ، وهي أن يؤلف كتابا عن المتنبي وأن يسرق معظم أفكاره من كتاب تلميذه السابق شاكر. فأصدر خلال سنة ١٩٣٧ كتابه (مع المتنبي)،أي بعد أقل من سنة من صدور الكتاب، فقد كان عليه أن يتصرف سريعا ليحاصر خطر شاكر القوي والمتنامي.
وقد أدرك شاكر ذلك وأنشأ مقالات يكشف فيها خديعة طه حسين وسرقته المفضوحة لأفكاره. ولكن طه حسين بما امتلك يومها من سلطان وأنصار في الظاهر والخفاء استطاع أن ينجو مرة أخرى.
هذه قصة تحتاج إلى تأمل لفهم كيف وصلنا إلى ما وصلنا إليه من ترد وسقوط. كيف يحاصر الفكر الأصيل الحر، وتفتح الأبواب لكل فكر منبطح ينشر معاني العبودية في المجتمع.