1 ـ لَن يَصْلُحَ آخرُ الأمّةِ إلا بما صَلَحَ به أولُها، ولكن، كيفَ يكونُ استخلاصُ الصالحِ اليومَ واستصفاءُ الماءِ العذبِ من المورِدِ الصافي، في زمنِ صَخَبِ المفاهيمِ واختلاطِ المنابعِ.
ما القِيَم التي بها خلاصُنا، ومَن سيُحييها، وكيفَ ينقُلُها ثُمّ يُنزِّلُها، وما شروطُ النّقل، ثمّ ما شروطُ النّاقلِ، وهلْ تضعُفُ القيَمُ أو تُصابُ بالكُدْرَةِ كلّما بَعدَ ما بينَ المنابعِ والمَصابِّ، وكيفَ يَسْلَمُ الناقلُ من آثارِ تعدّد النّزَعاتِ واشتباكِ الأهواءِ وتناقُضِ المصادرِ، ثُمّ كيفَ يُسلَّمُ له أن ينقُلَ بأمانةٍ.
ليسَت الأسئلةُ بمُعجِزٍ، ولكنّها مُنبِّهاتُ في الطَّريقِ وعلاماتٌ تحتاجُ إلى الالتفاتِ إليها حَذَرَ الشطط أو الإفراطِ أو التفريطِ أو الوقوع في الشبهاتِ وازدواجِ الخطاب.
2 ـ تداخُل الزمان والمَكان، وقيمةُ الزمانِ وقَدرُه أنّه يسيرُ نحو مَكانٍ لا حقيقةَ له إلاّ الزمان؛ فمآلُ الزمان إلى زمانٍ مثلِه:
يسألونَك عن الساعة أيانَ مُرْساها: ما أجمَلَ الاستعارةَ في “مُرْساها” والمُرْسَى مَصدر ميمي يدلُّ على الرُّسُوِّ والإرساءِ أي الاستقرار والإقرار والتوقف بعدَ المَخْرِ في البَحر، وإرساءُ الساعة مُستعارٌ من إرساء السفينَة، فهو رٌُسوُّ شيء في مكانٍ وزَمانٍ قال الله تعالى: «بسم الله مجراها ومرساها»، وعُبِّرَ عنه بالمُنتَهى: «إلى ربك منتهاها» مَكان انتهاء سيرها، وهو المصير، ومنهى الساعَة زمان انتهائها.
3- لن يُنقذنا من براثن الانقياد للعدو إلا هَبة خافقة وأَوبة صادقة، تجمع شملَنا وتلم شعثَنا وترتق ما فُتق من جسدنا.
ولن تغني عنا الأحلامُ والأوهامُ وطولُ الكلام، فإن العدو ماض في عَزمه جادٌّ في قَضمه، فإذا استسلمنا للأماني فلن يكون لحاضرنا غد.
وإن قوما اختلطت عليهم حقائقُ الأشياء فراحوا يطعنون على المقاومة ويستسيغون للكيان المداومة، فانهزم شطر منا وانتصر شطر من خصمنا.
4 ـ لا حاجةَ إلى بَسطِ الأمثلَة، فالقارئ لَبيبٌ:
بعضُ “العرب” الذين يُسمون أنفُسَهم مثقفين ومتنوِّرين وحَداثيين، يُعادونَ اللغةَ العربيةَ معاداةً باديةً تارةً وخفيّةً تارةً أخرى، ويَدْعو بعضُهُم إلى اسْتئصالِها من ديارها وتقديمِ لُغاتٍ أخرى عليها بل تقديمِ لهجات عامية مُغلَقَة، عليها.
وقصتُهُم أن المَشهدَ المادّيَّ السطحيَّ شتت أفكارَهُم فراحوا يأخذون بما تتناولُه حَواسُّهم، وهو مشهَدٌ لَم يُعْمِ أبصارَ قُدَماءِ المستشرقينَ ومُحْدَثيهم، ولم يَحُلْ دونَ تأليف باحثي الغَرْب ولسانييهم كتُبا ومَعاجمَ يُؤصِّلونَ فيها الأصلَ العَرَبيَّ لكثير من الكلماتِ الأوروبية، فإن كانَ هؤلاءِ العربُ يَخجَلون من الانتسابِ إلى لغتهم، فإنّ كثيرا من الباحثين والعُلَماء الغَربيين اليومَ لا يستنكفونَ عن البحث عن الحَقائقِ والإعلان عنها والتصريحِ بها ولا يَعرفونَ مُحاباةً ولا تملُّقاً كالذي عليه أولئكَ.
5 ـ الذي يُجادلُ في جَدْوى عُلوم الآلَة وقيمَتها في رفعِ شأن البُحوث العلميّة، ويَتَّهِمُها بالسطحيّةِ والشّكليّةِ والظّاهريّةِ، إنّما يُجادلُ في عَقيمٍ سَقيمٍ، ويُدافعُ عَن “السّكونيّة” ويَلوذُ بحالِ الهُزالِ ويَستمرئُ البَقاءَ في عُقرِ المُستنقَعات.
أخطرُ مَأتىً أُتِيَ منه طالبُ علمٍ جَهلُه بمفاتيح العلوم وهي وسائلُه وأدواتُه وعُلومُ آلاته، فمَن ضَيَّعها فقد ضيَّعَ العلومَ والمناهجَ وطُرُقَ التفكير المُنظَّم السَّليمِ وضيَّعَ اللغةَ الفصيحةَ نَفْسَها وباتَ مُضطرباً بين اللهجاتِ والدوارجِ والعامّياتِ بها يُعبِّرُ وبها يُفكّرُ وبها يستنشقُ هواءَ العلم، فإذا به يُلفي نفسَه مُختنقاً فلا هو عَبَّرَ بسلامةٍ ولا فكَّرَ بسلاسةٍ ولا عَلِمَ شيئاً ذا بالٍ
أيُّها الباحثُ اللَّبيبُ أيُّها الطّالبُ أيُّها المُمْتَحَنُ (بفتح الحاء)، لا تُجادلْ في جَدوى عُلوم الآلَة؛ فإنّه إذا سَلِمَت الأَداةُ سَلِمَ البَحثُ كلُّه وإذا فَسَدَت فَسَدَ. وإنَّه لا تقلُّ الوَسائلُ والأدواتُ أهمّيّةً عن المَقاصدِ والغاياتِ، بل يتَّحدُ الطّرفانِ حَتّى يَصيرا من جنسٍ واحدٍ.
6- الزَّمَنُ الذي “نَحْيا به” Time we live by
إذا أردْتَ أن تَعرفَ مَفْهومَ الزَّمنِ عند عامّةِ الناسِ في الغَرْبِ فانظرْ إلى حَركاتهم وسكناتهم وأساليب حياتهم وظعنهم وإقامتهم وعملهم وراحتهم وأكلهم وشُربهم… وكيفَ يتصورونَ الزمنَ ويَحْيَوْنَ به ، فسَتُلفي الزّمَن هوالعُمُر وهو الحَياة وهو الفُرَص النفيسَة المُتاحَة وهو الجوهر الثمين الذي لا يَسَعُ أحداً تَضييعُه وهو أعزُّ ما يُطلَبُ وما يُلتَمَسُ وما يُسْعَى إليْه.
هذا هو الزَّمنُ عندَهُم، وتستطيعُ أن تُصوِّرَ الزمَنَ تصويراً استعاريا رائعاً يُشخصُ لَك كيفَ يَحْيَونَ بالزمَنِ وكيفَ نَقْتُلُه ونَغْتالُه اغتيالاً.
7- لا يشكُّ أحدٌ اليومَ في أنّ العصرَ تسمَّمَت رياحُه وتلوَّثَت مياهُه وتكدَّر صَفْوُه، فلَم يَعدْ يُجدي عملٌ جادٌّ، ولَم يَعُدْ يُسمَحُ بظهور ذي مُروءةٍ وشَرَفٍ، وأُلقِيَ بالعوائقِ على الطرُق والسلاسل على المَنافذِ والألغام على المَداخلِ.
نتحدثُ عن زمنٍ قريبٍ وُجد في سياسيونَ يُثنى عليهم بأنّهم كانوا أُولِي مبادئَ وأصحابَ ضمائرَ وأيْدٍ نظيفةٍ، ولكنْ لا يَنسَينَّ أحدٌ أنّ العصرَ غيرُ العصر وأنّ مُمْسكِي زمامِ الأمورِ اليومَ لا يَسمحُونَ بظهورِ ذوي الأيدي النّظيفَة والقيادات العَفيفَة؛ لأنّ وجهةَ العالَم غُيِّرَت وقيادَتَه سُيِّرَت. غيرَ أنّ أولئكَ المَمدوحينَ الذينَ وُجدوا في زمنٍ ليس بالبَعيدِ، لو أُتيحَ لهم أن يَظهَروا اليومَ، فلَن يُسمحَ لهم أن يُصبِحوا كما كانوا، ولا أن أن يَنتشلوا لقبَ القِيادَةِ استحقاقاً، ولن يُسلَّمَ لهم بحَقِّها؛ فإنّ للعصر والسياقِ أثراً لا يُنكَرُ في رفعِ مَن رَفَعوه وخفضِ مَن خَفَضوه؛ غير أنّ الذي لا يُنكرُه العُقَلاءُ من الناسِ أنّ صاحبَ المبادئِ والأيدي النظيفةِ يظلُّ في المرتبةِ العُلْيا والمنزلةِ الكُبرى وإن لَم يُسمَحْ له بتَسَنُّمِها؛ فإنّ الحقَّ لا تُخطئُه عينُ الإنصافِ وإن عَمِيَت عنه العُيونُ الكَليلَةُ.
فإن كانَ الأمسُ زَمَنَ بناءِ ذَوي الهمم، فإنّ اليومَ زَمَن تَحطيمِ الهمم وكَسرِ أولي العَزائمِ، وهَدْمِ البُناةِ قبلَ هَدمِ البناء. ولكنَّ هذا لا يَدعو إلى إحباطِ الهِمَمِ وتَثبيط العَزائمِ وإن لم يُعتَرفْ بها ولا يُسلَّمْ لأصحابها. فمن العَزيمةِ وصلُ المُنفصلِ واستئنافُ الطريقِ حتى النهايَة.
8 ـ الفراغُ قاتلٌ، يقتلُ الشعوبَ ، ويقتلُ الأنظمَة ، ويقتلُ المجتَمَعات مثلَما يقتلُ الأفرادَ.
والأمم المتحضرَة لا تعرفُ إلى الفَراغ سبيلاً فهي في حالة سَير دائم ونموّ وتقدّم، ورَحاها تَدورُ ولا تَفتُرُ، ومَن خَرجَ من رَحى العَمَل فَقَد خَرَج من نَسَق الزمنِ وألقِيَ به في سلَّة التوقف والجُمود فالمَوت. والأمم التي تُعاني الفراغَ وقلّة الشغل تعيشُ الفَقر والبطالَة والأمراضَ، ويأكل فيها القويُّ رزقَ الضعيف ويبتلع اللصوصُ الكبارُ أرزاقَ العباد، والآكل آمن والمأكول غافلٌ، والجامع بينهما الجَهل والتخلّف.
9 – لم نعُد نُنكِرُ عليهم فِعالَهم، فقَد جاءَت على أصلِها وما خُلِقوا إلا للفَتكِ بأهلْ الأرضِ وملاحقتهم أينَما وُجدوا، وقتلِ السجناءِ قتلا بطيئاً وطمس مئاتِ العائلاتِ الأصليّة من سجلّ الحياةِ وإعدامِهم أحياءً وأمواتاً ومادةً ومَعْنى وواقعاً واعتباراً…
فهؤلاْ المخلوقاتُ لا تُحسن في الحياة شيئاً إلا الإبادَةَ للاستيطانِ والتوسُّع . وإنّما السبيلُ على الصامتين، من ذوي القربى، مُعاهِدين وغير مُعاهدين، فكلُّهم في ملَّته سواء، يتنزَّلون بصمتِهم منزلةَ الرّاضي المُقِرّ. فهم في عداد “الذين يَظلمونَ الناسَ ويَبغون في الأرضِ بغير الحقّ” ، وهم أيضاً بمنزلةِ “الذين رَضوا بأن يَكونوا مَع الخَوالِف”، فلا يُنتظرُ منهم عَون ولا تَحريرٌ ولا تَحذير.
10 – كلما ازدادوا صمتا ازدادَ قتلا وتماديا. وازداد العَرّابُ إمدادا، واقتربَ موعدُ الانتقال إلى التالي ثُمّ الذي يَليه… حَتّى مَتى يَظلّونَ في أركانِهم صامتين، فليسَت لهم منه برُكنٍ مَكين. ونارُ العداوة بينهم مُضرَمةٌ :
إِلامَ الخُلفُ بَينَكُمُ إِلاما * وَهَذي الضَجَّةُ الكُبرى عَلاما
وَفيمَ يَكيدُ بَعضُكُمُ لِبَعضٍ * وَتُبدونَ العَداوَةَ وَالخِصاما