في سياق مهاجمة كاتب ياسين للإسلام والعربية في الجزائر والمنطقة المغاربية عمومًا، أصبح يكرّر ويُعيد تلك المقولة، التي حاول المستعمِرون الفرنسيّون وأذنابُهم وخُدامُهم أن يدافعوا بها عن أنفسهم واستعمارهم وعن حق فرنسا في القيام بما قامت به؛ وهي أن الاستعمار الفرنسي لا يختلف في شيء عن ʺالاستعمار الإسلاميʺ. فلماذا تهاجمون استعمارًا حديثًا لم يدم أكثر من مئة واثنين وثلاثين عامًا ولا تهاجمون ذلك الاستعمار القديم الجديد الذي ظل يُهيمن عليكم ويحتلُّكم أزيد من ثلاثة عشر قرنا؟ وقد تلقَّف هذا السؤال أصحاب النزعات العنصرية المَقيتة ودعاة الشعوبية الحديثة، فجعلوا منه شعارًا يشكّكون به في شرعية وجود الإٍسلام بالمنطقة المغاربية، ووجود العربية لغةً وثقافة، ويطالبون برحيلهما معًا (العربية والعرب، والإسلام والمسلمين) وتحرير الأرض منهما باعتبارهما معًا استعمارًا لا يختلف في شيء عن الاستعمار الفرنسي أو الروماني.
الإسلام دين سماوي، جاء خاتمًا لسلسلة طويلة من الأديان السماوية الربانية التي كان غرضُها الأول والأخير هو زرع قِيَم الفضائل وتهذيب النفوس وتطهير القلوب وتربيتها على التغلّب على النوازع الشيطانية، ومنها الطُّغيانُ بالمال والسلطة والجاه، ومقاومة الشرّ والظلم والتعدّي وأكل أموال الناس بالباطل، وتنمية نوازع الإيثار وحب الخير للناس جميعًا، والحثّ على التعايش في مجتمعاتٍ آمنة في ود ومحبة وسلام، والتعاون على عمارة الأرض بالأعمال الصالحة بدل تخريبها بالظلم والعُدوان. ونشرُ هذه المبادئ والقيَم الحضارية الكبرى، كان هو الهدف. وبالتالي فإن برنامج الإسلام كان فيه نقطةٌ واحدة: هي إبلاغ هذه الرسالة إلى الناس كافة، ودعوتُهم إليها وإقناعُهم بها ثم تركُهم لأنفسهم بينهم وبين ربّهم. وهذا لا علاقة له بما جاء من أجله الاحتلال الفرنسي أو الروماني أو أي احتلال آخر عند اجتياحه للأراضي والبلاد التي اجتاحها وسيطر عليها وتحكَّم فيها وفي أهلها وثرواتها وخيراتها بالقوة والنار، كما فعل الإنجليز عند احتلالهم لأستراليا وأمريكا الشمالية، أو الإسبان والبرتغال عند احتلالهم لأمريكا اللاتينية، أو فرنسا عند احتلالها للجزائر والمغرب وغيرهما من البلدان الإفريقية الأخرى، أو فرنسا وأمريكا في حرب الفيتنام وحرب الهند الصينية. والأمثلة كثيرة.
كانت الفكرة التي ارتكز عليها دعاةُ التوسّع الاستعماري الأوروبي في القرن التاسع عشر، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الفرنسي جول فيري، وحاولوا الترويج لها وإقناع الناس بها، هي أن الِعرق الأبيض (الأوروبي) أرقى وأسمى وأكثر تحضُّرًا وتقدُّمًا، وأكثر قوةً، من بقية الأعراق السمراء والحمراء والصفراء والسوداء. وللأسف فإن نظرية تفوّق العرق الآريّ على بقية الأعراق، التي كان من أكبر منظّريها إرنست رينان (ت 1882م) وآخرون، رغم ما مضَى عليها من الوقت، ما تزال منتشرة بشكل أو بآخر ومسيطِرة على عدد من الكتاب والمفكرين الغربيين الذين ما انفكوا إلى اليوم يعتقدون أن أوروبا هي صانعة العالَم. ولعل آخرهم هو أندري أَمار الذي أصدر سنة 1966 كتابًا بهذا العنوان. ولأجل ذلك، سادت فكرةُ أن العِرق الأوروبي والغربي، هو المؤهَّل، بحكم تفوّقه الطبيعي، للتحكُّم في بقية الأعراق الإنسانية التي تتكوَّن منها دولٌ وشعوب كثيرة في الأرض، وهو الذي يقع عليه واجبُ ترقيّتها ونقل الحضارة والتمدّن إليها.
فأين هذا من قيم الإسلام التي ساوَت بين الناس وجعلتهم كأسنان المشط منذ اليوم الأول الذي أصبح فيه بلالٌ، وقد كان عبدًا حبَشيّا، أقرب الناس إلى رسول الله ورافع آذانه في كل أوقات الصلاة، ولم تفرّق بين الأعجمي والعربي، والأسود والأبيض والأصفر والأحمر، وبين الغني والفقير، ولم تجعل لأحد فضلاً على آخر إلا بالتقوى؟ أين هذا من قولة عمر بن الخطاب الشهيرة: كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتُهم أحراراً؟
وقد تفرَّع عن نظرية التفوق العرقي الأوروبي نظرية استعمارية أخرى هي نظرية الاستيعاب (أو الهَضْم والتمثُّل) L’assimilation التي عمل الفرنسيون بالخصوص على تطبيقها منذ القرن التاسع عشر، قائلين إن على الشعوب المحتلّة أن تُدمج شيئًا فشيئًا في الثقافة والحضارة الفرنسيتين. وبذلك أصبح الغرض من المدّ الاستعماري هو فرضُ الثقافة الفرنسية ولغتها وحضارتها وقيَمها بالقوة على الشعوب المحتلة، وإدماجها فيها بشكل قَسْري، بدعوى العمل على مساواتها مع الشعب الفرنسي في ثقافته وحضارته،وحقوقه تارةً، وبدعوة إخراج الشعوب المحتلة من تخلّفها وظلامها إلى عالَم النور تارةً أخرى. ومن المؤسف أن يسقط في ترويج مثل هذه الإيديولوجية التي خدَّروا بها عقول الناس، بعضًا من المثقفين الفرنسيّين الذين ما زالت لأعمالهم الأدبية حظوة وانتشار في عالمنا العربي والإسلامي، وعلى رأسهم فيكتور هيجو الذي كانوا يسمّونه ʺشاعر الحريةʺ، فقد كتب سنة 1841 يقول:« إن الغزو الجديد الذي قمنا به في الجزائر ذو شأن كبير ومُفرح، إنها الحضارة التي تكتسح البربرية. إنه الشعب المستنير الذي يذهب في اتجاه شعب غارق في الظلام. نحن إغريق العالم وعلينا أن نضيئه».
والحقيقة أن الذي كان يُراد من وراء عملية الاستيعاب والدمج هو مسخ شخصية الإنسان صاحب الأرض، وسلب هويته وتخريب مجتمعاته بما نشروه فيها من تفسّخ وميوعة وفساد أخلاقي ودعارة عَلَنية وإباحية جنسية والجهر بشرب الخمور وتعاطي القمار والربا في المعاملات، وغيرها من الآفات الأخرى، وأعظمها آفة تشكيك الناس في عقيدتهم، وتحويلهم عن ديانتهم، ومحاربة لغتهم، وتنشئتهم على قيَم وثقافة مخالفة لقيمهم وثقافتهم. وقد أسفَرت عملية الدمج هذه عن جرائم فظيعة بلغت إلى حد انتزاع الأطفال من أُسَرهم وبيوتهم، ودفعهم إلى الأديِرة والكنائس لتنشئتهم على ديانة أخرى غير ديانة آبائهم وأجداهم، ومنع أوليائهم من الاتصال بهم، وما رافق ذلك كله من جرائم أخرى كالاغتصاب والقتل، مما اضطر البابا فرنسيس إلى الاعتذار عنها مؤخرا عند زيارته لكندا في الشهر الماضي. وهنا يتبيّن أن الاستعمار لم يأت لمدّ الإشعاع الثقافي والحضاري بطريقة تجعل الشعوب تنجذب إليه وتنساق عن رضًى ورغبة وطواعية، وإنما لإرغام الناس على الدَّمج القسري في ثقافته ولغته وقيَمه، وحَملها بالقوة على التنازل عن هويتها وخصوصياتها بما فيها الخصوصية الدينية والعَقَدية والثقافية واللغوية. ولذلك فالاستعمار كان يُراد به الهَضم وتفتيت الكيانات والهُويات وإذابتها في شخصيته وهُويته. وكلّ ذلك حدثَ من أجل الوصول لإخفاء أهداف أخرى مادية صِرفة: اقتصادية وتجارية وتوسُّعية، ودينية أيضًا. ولا يتسع المجال لتفصيل ذلك.