استمعتُ صدفةً لنموذج من تلك النماذج التي جاءت بها «حكومة الكفاءات». كان ذلك في جلسة برلمانية عمومية منقولة على الهواء مباشرةً، وقد حاول (النموذجُ) بكل جهد وإخلاص، وبكل مشقة ومعاناة، الوصول إلى قراءة كلمة قصيرة جدا، كُتبت له بالعربية، جوابًا عن سؤال، فما وصل ولا أفلح؛ تكسَّرت في لسانه الكلمات، وتساقطت الأحرف، وتطايرت شظايا الأصوات التي لا يُتقن نطقَها الأعاجمُ والعجماوات، فتلعثَم، وتَمتَم، وتَأْتَأ، وفأفأ، ووَأوأ… ولم تستقم في لسانه جملة واحدة صحيحة من أبسط الجمل والكلمات التي يتقاذفها صبيانُ العوام في حارات المدن والساحات. ولم يملإ الوقتَ المخصَّص له إلا بحروف متقطِّعة، بينها نقط هنا، وصمت هناك، وبياض كثير ها هنالك. وحين أراد الاعتذار، لم يجد ما يُسعفه إلا كُليمات فرنسيات ألقَى بها على رأس المنصة وغادر. لم يخجل من نفسه ووضعه، ولم يشعر بمأساته ومأساتنا، وهو المزهوُّ بلقب «الكفاءة» العليا الذي يجره وراءه طويلاً كذيل عروسٍ أو ريشِ طاووس. خجلتُ أنا مكانَه إشفاقًا على بلدي ووطني وأمّتي ولغتي وهويتي، ولم يخجل. وخجل البرلمانُ ــ أظنّ بمن فيه ــ وتمنى خطباؤه المصاقِع، على قلتهم، أن لو خُسِفت بهم الأرضُ وانهارت تحتهم، وأحسَستُ بالمشاهدين في المغرب كله، وهم يغرقون في بحر من الخجل والمهانة والأسف على سمعة بلادهم. أما «الكفاءةُ» النَّموذَج، فلم يعبأ ولم يخجل.
كنت أقرأ هذه الأيام عن السياسة اللغوية التي اتّبعها الفرنسيون في بداية احتلالهم للجزائر، قبل أن تُغيَّر وجهتُها وتُحوَّل فيما بعد، فوجدتُ أن الحكومة الفرنسية برمّتها، بما فيها وزير الحربية آنذاك بنيامين فانسان، كانت تشجع جنودها ومواطنيها وأطرها القادمين لحُكم المستعمَرة المفتوحة، وتحثّهم على تعلّم العربية المستعملة فيها، وتسخّر كل الوسائل لأجل ذلك، لأنها كانت تعتقد، وتصرِّح بهذا الاعتقاد، في البدايات على الاقل، أن تعلّم لغة المحكومين أمر ضروري لمعرفة كيفية التواصل معهم والتعامل، والتسرُّب إلى عقولهم، والتأثير في عواطفهم ووجدانهم، ونقل ما تريد نقله إليهم من إيديولوجيات وأفكار، وصولاً إلى تيسير سبُل حكمهم والسيطرة عليهم، وانتهاءً باندماجهم الكامل.
فحتى لو اعتبرتمونا مستعمَرين ومحتلّين، وكنتم تريدون امتلاك عقولنا، والوصول إلى أعماق أنفسنا، وتدبير شؤوننا، والتواصل معنا، والاستماع إلى شَكاوانا، وفهم مشاكلنا والعمل على حلها، فلا أقل من أن تتعلموا اللغة التي يمكنكم استعمالها في مخاطبتنا، نحن الأهالي و«الأنْدِيجان». أما أن تفرضوا علينا لغتكم من أجل أن نتلقى بها أوامركم ونواهيكم، ونطبق قوانينكم وأحكامكم وأعرافكم، فهذا كثير، وكثير جدا. صعب علينا تحمُّلُه، وصعبٌ عليكم بلوغ غاياته ومآربه.
أنا لا أستطيع أن أتصور كيف يمكن لمسؤول حكومي أن يفلح في تسيير وزارته وإدارته، وهو قاصِد متعمِّد ألا يستعمل إلا لغة الأجنبي. ماذا يصنع بمذكرات المصالح المختلفة التي تُرفع إليه من كل جهات المملكة إذا كانت بالعربية، وشكاوى المواطنين والمتظلّمين التي لا تأتي لديوانه إلا بالعربية أو الأمازيغية؟ وبأية لغة يمكن محاورة ممثلي نقابات العمال والمأجورين وإقناعهم كلما خرجوا إلى الشارع، فأحرى أن يجيب عن سؤال في البرلمان، أو يجادل خصومه السياسيّين ويُسكتهم؟ لا شك أنه سيعيد عقارب الساعة إلى سنة 1912، ويعمل بسرعة على إعادة فَرْنسة الإدارات التابعة له بجميع أقسامها الداخلية والخارجية، ويمنع استعمال الحرف العربي في كتابة أية وثيقة صادرة عن مصلحة من مصالحه، حتى العناوين الصغيرة المعلقة على أبواب المكاتب داخل جدران البنايات الموضوعة تحت تصرفه، ويتصدى لكل من أراد الحديث بالعربي في أي اجتماع من الاجتماعات المغلقة والمفتوحة، ويتعاقد مع هيئة متخصصة لتزويده بجيش من المترجِمين الذين يحوّلون كل ما ينتهي إليه سمعه وبصرُه، وما يَرد إليه ويصدر عنه، إلى الفرنسية التي لا يفهم غيرها، ويمنع توظيف أي كفاءة حقيقية لا تُتقن الفرنسية كتابة ونطقًا، حتى ولو جاءت من أعرق المعاهد والجامعات في أكبر بلاد العالَم، ويرفض أي سؤال يوجه إليه بالعربي من أي صحافي أو إعلامي … إلى غير ذلك من سلسلة الإجراءات السلطوية المطابقة جدا لتلك التي كانت تُتَّخذ عقب احتلال المغرب في بداية القرن الماضي… إذن، عاد الاستعمار اللغوي في أبشع صوره، إن ثبت خروجه في يوم من الأيام.
أنا شخصيا لا أعترف بأية «كفاءة» عجماء لا تفهم لغة شعبها ووطنها وأهلها، وأخرى بَكماء لا تُجيد التكلّم بلغة بلادها وتَهَجِّيَ حروفها ونطق أصواتها، لأن ذلك طعن حقيقي في قدرتها وموهبتها وكفاءتها. وأستغرب أن يُوصف مَن هذا شأنُه بصفة «الكفاءة»، إلا من باب تسمية الأبيض بالأسود، والناقص بالكامل، والجاهل بالعالِم. فيا لَمهزلة اللغة إذا تحوّل كلُّ ضد إلى ضده !! لكن، ما دمتم غير قادرين أن تتصوّروا وجود شيء اسمه «كفاءة»، إلا إذا تجلّى لكم في صورة شخص أعجم، أي لا يُحسن سوى اللسان الأعجمي والفرنسي بالذات والصفات، أو في شكل إنسان أبكم لا يعرف التكلم بلغة بلاده ونطقِ لسانها العربي الفصيح والعامّي، فقصّروا الطريق وقرِّبوا المشقة، وولّوا علينا من تشاؤون من الفرنسيّين رأسًا وبلا واسطة، فهم بهذا الاعتبار كلهم كفاءاتٌ بلا استثناء، لأنهم كلهم أعاجم، طليقُو اللسان في لغتهم، خُرْسٌ بُكْمٌ لا يتكلمون بلغتنا. ومَن يدري؟ لربما كانوا أرحم بنا وألطف بلغتنا من أبناء جلدتنا الذين استعجَموا حتى نَسُوا لغة بلادهم واحتقروها وأذلّوها، وجاؤوا إلى برلماننا وهم يعتقدون أنهم جاؤوا لمخاطبة نواب شعب أعجمي.