هناك زوايا كثيرة ومتعددة يمكن أن ننظر من خلالها إلى واقع اللغة العربية اليوم، وبالتالي لا يمكن أن نجيب إجابة كاملة، منصِفة، موضوعية، مُقنِعة، عن السؤال التقليدي الذي يُطرح دائمًا: ما هو واقع اللغة العربية اليوم وآفاق مستقبلها؟ إلا باكتمال الرؤية من خلال هذه الزوايا جميعها.
ولكن دعني، في هذه العجالة، أذكر زاويةً واحدة منها فحسب:
إذا نظرنا إلى هذا الواقع من خلال المواقف الرسمية للدول العربية والإسلامية من لغتها المشتركة، وما تُطبِّقه على أرض الواقع العملي، لوجدنا، من جهة، أنها في الجملة مواقف متذبذبة، بل متخاذلة، وفيها تناقُضٌ كبيرٌ بين ما يُكتب في دساتير هذه الدول ويُروَّج له إعلاميا وسياسيا، وما يُنفَّذ عمليا، ولوجدنا، من جهة أخرى، أنها ما تزال ـ للأسف الشديد ـ حبيسة رُؤى موروثة من أيام الاستعمار والاحتلال، رَسَّخت في أذهان النخَب السياسية والمتعلِّمة أفكارًا بئيسة كلها تعمل على هدم الشخصية العربية الإسلامية المعتزة بهويتها وأصالتها وثقافتها وحضارتها ووحدتها، وعلى بناء شخصية بديلة لها، مهزوزة،، منخورة، مرتبِكة، فاقدة للثقة في نفسها، قابلة للذوَبان في شخصية مُستعمِرها القديم والتماهي معها إلى حد الاندثار.
وإذن، من الطبيعي أن تكون هذه النخَب الواقعة تحت تأثير هذه الرؤية الاستِلابية الفاقدة للوعي الوطني السليم، غيرَ مُدرِكة لأهمية اللغة الوطنية المشتركة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي لا يمكن أن تتحقق إلا بتوطين المعرفة، وتوطين المعرفة لا يمكن أن يتحقق في أوطاننا عن طريق تدمير لغتنا وتعميق جذور التبعية الثقافية واللغوية التي لا تقود بالضرورة إلا لتبعية اقتصادية وسياسية. والوسيلة الناجعة والفعّالة والمتفق على أهميتها، لتوطين المعرفة، هي تدريس العلوم والتقنيات باللغة الوطنية المشتركة.
هذا الأمر أصبح اليوم من المسلَّمات الواضحة عند المفكرين والعلماء النزهاء والعقلاء بكل أنحاء العالَم. وما يحدث في المغرب ـ على سبيل المثال ـ وفي دول مغاربية أخرى ما تزال بدورها واقعة تحت تحكُّم هذا النوع من النُّخَب، هو عكس هذا التوجه تماما. فعوض أن نسعى ونحثّ الخطى نحو ترسيخ هذا المبدأ في عقولنا وممارستنا العملية، ونضع سياسية تعليمية تُثبِّت دعائم هذا المبدأ، نرى الأمور تسير في اتجاه آخر، مضاد ومعاكس تماما لهذه الفكرة. وبالتالي أنا شخصيا لا أؤمن بإمكانية تحقيق أي نهضة وإقلاع اقتصادي واجتماعي متحرّر من كل تبعية، إلا إذا بُني على هذا الأساس الصحيح، ووُضِعت قاطرتُه على هذه السِّكة. ولا شك أن المضيّ المتعنّت في محاولة بناء تنمية اقتصادية واجتماعية لبلادنا على أساس لغة أجنبية، ستنتج عنه أضرار جسيمة ليس على التنمية فحسب، بل على لغتنا العربية المشتركة حاضرها ومستقبلها، بالدرجة الأولى.
مع الأسف، هذا الأمر يحتاج إلى قرار سياسي شجاع مبني على اقتناع تام ويقين لا يتزَحزح. والسؤال: هل نحن في عالمنا العربي والإٍسلامي نملك قرارنا السياسي؟ وهل نحن قادرون على حماية مثل هذا القرار الذي لا بد من اتخاذه في يوم من الأيام؟
ملاحظة: نُقلت عني هذه الكلمة في موقع إلكتروني، فوقعت فيها أخطاء مع التصرف، لذا اضطررت لإعادة نشرها هنا.