التقرير السنوي الذي نشره مؤخرًا المجلس الأعلى للحسابات عن الوضعية المالية للأحزاب السياسية، لا يقدم فقط شهادة رسمية من مؤسسة دستورية عن حجم التلاعب بالمال العام وغياب الشفافية وسوء التدبير، وتبذير هذا المال فيما يضر ولا يُفيد، وإنما يتضمَّن ولو بشكل غير مباشر، الجواب المنطقي عن سؤال: لماذا فقدت هذه الأحزاب أو أغلبيتها مصداقيتَها عند الشعب؟ وهذا الجواب يقول في شطره الأول: إن أحزابنا أصبحت تعيش على مساعدات الدولة وما تتلقاه من دعم مالي يؤخذ من جيوب دافعي الضرائب دون استشارتهم ويستخدم أحياناً ضد مصلحتهم، وكثير منها لو قُطعت عنه هذه المساعدات لمات في حينه كما يموت السمك عند قطع الماء عنه. ويقول في شطره الثاني: لا يمكن للأحزاب أن تكون مستقلة في قراراتها واختياراتها ومواقفها وبرامجها، ما دامت غيرَ مستقلة في ماليتها وغير أمينة في إنفاق ما يقدم لها من مساعدات، ولا بد أن تكون تابعة لبرامج الدولة وقراراتها واختياراتها وتوجيهاتها وتعليماتها وإلا قُطع عنها الماء والغذاء، فهي موظَّفة عند الدولة والدولة هي التي تُشغّلها وتدفع لها مقابل ما يُطلب منها من مواقف عند الحاجة.
في الزمن الذي كانت فيه الأحزاب أحزابًا، لها وزنُها وتأثيرها وقيمتُها واحترامُها واعتبارُها، لم تكن تجرؤ على مدّ يدها للدولة، بل كانت تتشرَّف بإعلان رفضها لما قد تتبرع به لصالحها أو صالح بعض قادتها أو أجهزتها، وتعدّه رشوة لشراء ذمتها وتليين مواقفها. كانت تعيش على الكفاف والعفاف، يكفيها ما تتلقاه من دعم مُنخرِطيها وتبرعات المتعاطفين معها، والدولة لا تستطيع أن تعاقبها بقطع المؤونة عنها إذا فقدت مساندتَها السياسية، ولا أن تؤثر في تغيير مجرى خطها الإيديولوجي والنضالي عن طريق هذا النوع من الإغراءات والتسهيلات التي تتحول إلى ضغوط حادة تجعلها دائما واقعة تحت أضراسها. كان رأسُ مالها الحقيقي الذي تستثمر فيه هو جماهيريّتها ونضالها ومصداقيةُ خطابها ووضوح خطها السياسي. أما اليوم، وقد أصبحت الأحزاب، أو جلها حتى لا نعمّم، عبارة عن مقاولات تعتمد على المورد الأساسي الذي يأتيها من تحويلات الخزينة العامة، فمن المنطقي أن تتحول إلى أدوات لتنفيذ برامج الدولة ولا تستطيع ممارسة النقد الموضوعي والمعارضة الحقة والانخراط في أوراش إصلاحية تحتاجها البلاد. التبعية المالية لا يمكن أن تنتج سوى تبعية في المواقف والرؤى والممارسات السياسية. والبلاد لا يمكن أن تسير بهذه الطريقة حيث لا يكون هنالك سوى موقف واحد ورأي واحد وفهم واحد، تتواطأ عليه الأغلبية والمعارضة مسبّقا وتتقاضى الأجر عليه.
طبعا ليس هذا هو السبب الوحيد لتخلّف الأحزاب عن القيام بأدوارها الجِدّية المنتَظَرة منها وغياب تأثيرها الإيجابي في سير المجتمع ورسم آفاق مستقبله بما يقتضيه وجودُها في الحياة السياسية، بل ليس هذا هو السبب الوحيد في جلب غضب المواطنين ونفورهم منها ويأسهم من أي دور إيجابي يمكن أن تقوم به، وإنما هناك أسباب أخرى في مقدمتها تحوُّلها من مؤسسات لتأطير وعي المواطنين في الاتجاه الذي يخدم المصلحة العامة، وتخريج الأطر السياسية القادرة بنزاهتها ونظافة ذمّتها وإخلاصها للبلاد وقوتها الاقتراحية وعطائها الفكري وتكوينها الثقافي وخبرتها ونضجها السياسي، أن تقود البلاد قيادة رشيدة عند الحاجة إليها في كل المجالات، إلى مكاتب لتسجيل الراغبين في كسب رهان الانتخابات والتسلُّق عن طريقها وعلى ظهور المناضلين الحقيقيّين نحو الكراسي المريحة والمُدرّة للدخل السهل والريع الذي لا يُحاسَب عليه. وقد كشفت المحاكمات الأخيرة الغطاء عن طائفة كبيرة من أعيان بعض الأحزاب وبرلمانيّيها المزوَّرين ورؤساء مجالسها الفاسدين الذين استطاعوا اختراق صفوفها لتلويث المجال السياسي بسمعتهم السيئة. وإنَّ عدد هؤلاء لكثيرٌ وكثيرٌ جدا، وما خفي أعظم.
لا شك أن الأحزاب، أو التي يعنيها الأمر على الأقل، تتحمل مسؤوليتها فيما يقع، ولاسيما في تنفير الشباب من العملية السياسية وتييئسهم من أي إصلاح يأتي على يدها، وهذا في حد ذاته أمر خطير جدا على واقع البلاد ومستقبلها، ولكن للدولة أيضا نصيبها الكبير من المسؤولية.