وليكن؟ فنحن لا نعرف ذلك الكاتب وليس لنا اطلاع على عناوينه. ولا نعرف شكل تلك الكتب ولا نكاد نميز ناشرها والنوع الأدبي الذي تنتمي إليه. ولكننا كلنا صُدمنا بذلك الزحف البشري الذي حل فجأة إلى المعرض، وذلك الصف الذي خُلق ورُتب وسط الخيام الكبيرة، وامتد من المدخل إلى الجناح الأخير. وكلنا تساءلنا في بداية الأمر: ماذا هناك. ما الذي يقع؟
شخصيا، استغربت لتنظيم ذلك الصف الطويل والعريض، وقلت في نفسي ربما هناك قاعة عرض أو مطعم في مقدمة الطابور! ربما! ولكن مخزوني الثقافي وصور المعارض التي حضرتها، هنا وهناك، لم تسعفني لخلق “أفق انتظار آخر”، ولم أتصور البثة أن الأمر يرتبط بكاتب وكتاب. هاري بوتر الشباب هنا! شخصية هاري بوتر المعرض تجلب هذه الحشود. هاري بوتر أسامة يزور المعرض، دون أن يُعلنَ عنه في مكبرات صوت إدارة المعرض. ثم يصطف الناس صفا صفا. من هؤلاء؟ لا نجد جوابا في الصفوف، بل في طاولة التوقيع، حيث نقلت لنا صورٌ لشباب أغلبهم في سن المراهقة أو يزيد قليلا، ولأن في الصف آباء وأمهات جاءوا لمرافقة أبنائهم للحدث الذي قد لا يعوض، بدا الصف مكتظا، بدا مثل صف لن يتكرر.
وليكن! فالصف يؤدي بنا حتما إلى الحديث عن وجود قراء آخرين، يتدثرون خلف صفحاتهم، دونما حاجة للنقاد والأدباء الذين نعرفهم، بل وربما دونما حاجة لمعرفة ما يجري في قاعات المعرض. قد يكون الأمر كذلك. ولكن يجب أن نعلم بأن نهاية توقيع كتب هاري بوتر، أسامة المسلم (وهذا اسمه، وقد عرفته بعد معرفة دواعي الصف، وكنت جاهلا بوجوده تماما) كانت بداية تدفق للزوار نحو باقي الأروقة التي ظلت مفتوحة إلى وقت تجاوز وقت الإغلاق أمس، وكنت شاهدا على ذلك. أي أن تضاعف الزوار أدى إلى تنشيط خاص للمعرض أمس. وجعل الإعلام وشبكات التواصل تهتم بالموضوع.
لقد نشر صديقي سعيد الباز ، الشاعر والمترجم الأنيق، تدوينة أمس حول هذا “الصف”، راقني المنحى الذي سارت فيه. فقد كتب أن” الأهم من كلّ ذلك، أن نطرح سؤالا أقرب إلى البديهة: من أين جاء هؤلاء القراء؟ وهل حدث من قبل أن أحدث كتاب ما، رغم أهميته، هذا التهافت أو الاستعراض على حدّ قول غي ديبور؟ أظنّ أنّ في الأمر شيئا آخر يسلط الضوء على ظهور نمط جديد ل”التداول الثقافي””. وأنهى حديثه بالحديث عن “عملية الإخضاع عبر وسائل التواصل والمنصات الافتراضية، بدت كما لو أنّها قد وجدت طريقها إلى الحقل الثقافي والإبداعي، وما هي إلّا بداية!!!” وانا أشاطره الرأي، وأتذكر في الوقت نفسه، تلك الأعداد الكبيرة من الناس التي كانت قد حضرت توقيع كتاب الرحيل للعربي باطما، إلى درجة استدعت إحاطة أمنية في الحي. كما أذكر أن بعض اللقاءات مع كتاب في الجامعات كانت تملأ المدرجات عن آخرها، من كل الاتجاهات، من الحداثيين ومن الفقهاء ومن الخطباء. فلا ضير،إذن، إن تغيرت الباراديغمات اليوم. فلغتنا لا تنصت لهؤلاء الشباب ولا تعيرهم الاهتمام الكافي، ولا تنتبه لاهتماماتهم.
وعلينا أن نقف عند الأسلوب التسويقي الذي يعتمده هذا الكاتب الشاب، لنفهم بأن هناك عملا تواصليا ثقافيا مغايرا يُعتمد من طرف هؤلاء الذين ننظر إليهم باستعلاء.
وسأنهي كلامي بالتذكير بما عشناه في لقاء بداية هذه السنة، نظمته مؤسسة الفقيه التطواني، شاركت فيه، إلى جانب الكاتبة لطيفة باقا Baqa Latifa والأخت الأستاذة رشيدة رقي Rachida Roky ، والباحثة السوسيولوجية رحمة بورقية، وطرحنا خلاله النقاش حول موضوع التفاهة الثقافية وميل الشباب نحوها، وبسطنا أسئلة حول الطرائق التي يعتمدها هؤلاء من أجل أن يتشرب الشباب أعمالهم. فأجاب شاب عن ذلك وقال لنا بصيغة استنكارية: حاولوا أن تعملوا على استقطاب الشباب كما يفعل هؤلاء، لعلكم تفلحون. وإلى ذلك الحين لن أحكم على أعمال الكاتب الذي خلق الحدث، إلى حين التعرف على أعماله أو على بعضها. وقد قرأت في محركات البحث أمس أنه يعتمد الخيال العلمي ويعتمد على الفزع والخوف والتشويق في أعماله. سوف نرى. ولكن الصف الذي لن يتكرر ملأ الدنيا وشغل الناس.