“البشر ليسوا جيدين ولا سيئين، فهم معقدون ومتعددو الاستخدامات“ ـ ادغار موران ـ
لا وجود لمفاهيم واعية بسياقات التنزيل والاختصاص، عندما نتداول لفظ “المؤثرين” أو عبارة “صناع المحتوى”. غير أن ما يروج حول حضورهما التفاعلي، فيما أصبح يعرف بمنظورات الوعي بوظائف الإعلام الوسائطي الجديد، يثير أكثر من سؤال حول الماهية والأساس البنائي للإعلام الجديد وتكنولوجيا الوسائط الجديدة New Media Institute
حيث يصبح التحديد أكثر تعقيدًا عندما تفكر في أنه مع استمرار تقدم التكنولوجيا ، يتغير التعريف باستمرار.
إن ما تشكله طفرات الوسائط إياها، والقائمة على عديد وضعيات سريعة الوقوع، وبدرجات متفاوتة، كما هو الشأن بالنسبة للمدونات ونقلها إلى الموسيقى والبودكاست، وتسليمها رقميًا من موقع ويب أو بريد إلكتروني إلى الهواتف المحمولة وتطبيقات البث ، هو في حقيقة الأمر تطوير لإمكانيات مهاراتية ذاتية، يتم من خلالها الحصول على قدرة فاعلة ومتكيفة على صقل المهارات اللازمة للنجاح في صناعة المحتوى البصري والفني، مثل الكتابة والتصميم الجرافيكي وإنتاج الفيديو والتسويق. وهو ما يضع المفاهيم النظرية للخطاب الإعلامي في مأزق “القيم” وعلاقتها بمنظومة الأخلاقيات ومستتبعاتها.
ولأن العلامات في هذ المجال، بما هي رموز وأدلة وشفرات مبرمجة، ضمن حدودها البصرية والفوتوغرافية والسيميوطيقية، تتقاطع مع خطوط الحركة لدى مكون المحتوى الإعلامي الجديد، فإن نظام الترميزات والتصميمات الجرافيكية، أضحت مساحاتها أكثر سيطرة وأشد سطوة وأعمق تأثيرا في نسيج العلاقة التي تجمع الفاعلين بالمفعول بهم.
ومعلوم، أن الوسائط الجديدة تحيل بالأساس إلى المنصات التي تعتمد على التكنولوجيا الرقمية للتواصل مع الجمهور.
وفي مصطلحات اليوم ، يمكن أيضًا الإشارة إلى الوسائط الجديدة على أنها وسائط رقمية أو وسائط متعددة. لكنها أكثر تأثيرا في باراديجم التواصل، دونما تقييد للموضوعات أو الصور أو المحتويات. وهو ما يكرس خللا واضحا في تفكيك أو استنتاج مفارقات تتعلق بوضعية الصحافة وقانونيتها، مع استمرار جدل الهوية والمهنية ومتعلقاتهما؟.
من يبحث عن المحتوى إذن، في ظل تغييب هذه العناصر المعرفية، بل إعادة تقييمها على ضوء المعطيات الكونية العامة، التي أصبحت جزءا لا يتجزأ من منظومة قيم الإعلام الجديد، والذي تتسع مجالاته وأحلامه فوق ما تضعه أنظمة الدول ودساتيرها؟.
صناع المحتوى يتحدثون الآن عن كيفية إنشاء “إستراتيجية محتوى الوسائط الاجتماعية”، وانتقلاتها السلسة من مجرد “خرم إبرة” إلى “غابة كثيفة”. ومن مجرد رؤية محدودة الاتصال، إلى رؤية بعيدة ومتعالية. لها نظامها الخاص بها، وقواعد مسلكية لربط العملاء المحتملين، وجعلهم أداة طيعة وقناة متينة التأثير والاستئثار؟.
إنهم يقيسون علاقاتهم الافتراضية، على مساحة واسعة من المتلقين والمتتبعين، بمضمون التفكير الذي يزن كل شيء بقيمته المبحوث عنها، عبر صناعة تخدم أفكار المحتوى الشائعة، إلى بناء الولاء للعلامة التجارية وزيادة الوصول.
المعجبون بالمحتوى إياه، يقتنصون بدورهم فرصة للتعليق أو الترميز بتعبيرات سريعة، بالمشاركة أو المرور على المنصة، دون انشغال بقيم هذا المحتوى وعلاقته بالمجتمع.
وهكذا تنصبغ درجات التأثير بالمحتويات عبر ظواهر اجتماعية ونفسية وثقافية، تستفرغ آثارا مليئة بالأثقاب والشرارات المليئة بتناقضات مفجعة وشديدة الإيلام، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بمتلقين غير راشدين، أو قاصرين عن “فهم المقاصد” و”منطق الصراع الحضاري ” وتأثيرات ذلك على “المجتمع” و”الثقافة” و”الأعراف” و”الدين” ..إلخ.
كيف نتجاوز هذه المعضلة إذن؟
هذه هي المشكلة، التي يجب أن تلقي آذانا وعقولا. فاتساع حرية الارتباط بالعالم، أضحى متهيبا من اتساع فجوة الإهلاك “التي حفرها الإنسان وسقط فيها حين تفوق تفوقاً منقطع النظير في العلوم والتقنيات، وانحط انحطاطاً مخزياً في بناءات المعنى وتصورات الحياة”، بتعبير إدغار موران. والسرعة التي تتمادى في نسق هذه الفورة القطيعية الكبرى، تكاد تحصر النظر الإنساني في مآلات غامضة ومريعة، يحفها التشتت والضياع واتساع الهوة بين القيم والمادة، بين جوع المعرفة وخواء البطن.
هذا الزحف الروبوتي المتوحش، الذي يفتك بالعالم، فيجعله صناعة عجينية سهلة الإغواء والأدلجة المادية، لا يحصر مسوغاته التكنولوجية الفتاكة، في مدى نجاعة صناعات الرذيلة والرداءة، بل يتحداها إلى أبعد من السيطرة الشاملة على العالم، مخلفا ضحايا صناعاته الهدامة والسابحة في ذرى مستعمرات التكونولوجيا بأدواتها وأساطينها وقضها وقضيضها؟.