الحلقة الخامسة والأخيرة :
توطئة أولية :
الشاعرة فرات إسبر شاعرة معاصرة من بلاد الشام التي أعتبرها صلة وصل ما بين المشرق والمغرب ، وحاضنة لمدلولات تراثية وثقافية غنية بعبق التاريخ ، ولها بصمة على الحضارات المتعاقبة ، وبالرغم من أنها تستقر بعيدة عن وطنها ، وبالضبط في بيوزيلاندا إلا أنها ظلت تعمل كالفراشة تطوف مع الشعر في اتجاهات مختلفة ، تحلق في السماء ، وتغوص في أمواج الحياة ، وتتجول في أعماق التاريخ لترشف رشفات من ينابيع الفكر ، ودواخل النفس ، ومكونات الوجود المختلفة ، تحولها إلى أيقونات غاصة بالدلالات ، وتتخذ منها وسيلة للبوح بدفقات الإحساس ، وتأملات الذهن ، ومحتويات الموقف بحثا عن المفقود في الكون وفي الإنسان ، جامعة بذلك بين ذكريات الماضي الجميل ، وتوجعات الحاضر الكئيب ، وتترقب المستقبل في الأفق عبر أشكال تتفرق ما بين الإبهام والأمل .
شاعرتنا صدر لها لحد الآن خمس مجموعات شعرية هي :
الأولى صدرت عام 2004 بعنوان : ( مثل الماء لا يمكن كسرها ) .
الثانية صدرت عام 2006 بعنوان : ( خدعة الغامض ) .
الثالثة صدرت عام 2009 بعنوان : ( زهرة الجبال العارية ) .
الرابعة صدرت عام 2011 بعنوان : ( نزهة بين السماء والأرض ) .
الخامسة صدرت عام 2020 بعنوان : ( تحت شجرة بوذا ) .
يتبين لنا أن محطات الشاعرة فرات وهي تبحر مع الشعر كثيرة ومتوالدة بِتَتَالٍ مُحكَمٍ ، متقارب ومتباعد السنين ، يصعب على القارئ لَمُّ شتاته بيسر وبإحاطة كاملة وغير متأثرة بالتيه الفكري الإيجابي .
كل قصيدة وكل مقطع حاكته شاعرتنا ينتهي بلا نهاية محددة شافية وكافية ، بل إن كل نهاية كتابية ترسم في ذهنك الكثير من التصورات والتطورات الإبداعية المتلاحقة تماما كما توحي بذلك عناوين المجموعات المتقدمة ، وكما يستشف من الآليتين المتحكمتين في المسافات والأنساق ، ونقصد بهما : طبيعة الشاعرة الأنثوية ، وعوالمها الفسيحة فساحة الكون وتجلياته المتنوعة .
شعر الشاعرة فرات هو شعر يجمع ، ويُشرِك القراء في عملية الإبداع ، وهم وإن تعددوا وتنوعوا وتناسلوا مع الزمان فإن كل واحد منهم سيجد عالمه المنشود ، وقصيدته الممشوقة ، وتلك المواقف الجمالية التي تغري بالمتابعة والمصاحبة والاكتشاف .
شعرها مفتوح لا يضيق ، ولا ينضب ، وكيف ينضب من يستقي مواقفه من تقلبات الحياة الواسعة ، وألوانها ، وأشجارها ، ووقائعها المتسارعة ، وأفراحها ، وأحزانها ، وجميع مظاهرها……
شعرها مثل الزمان سائر ومتجدد وله أشكال ومعاني مع انبثاق لحظات الليل والنهار والإنسان منذ فجر الحياة وإلى ما لانهاية ، شعر بهذه الكثافة في المعنى ، وبهذا التشكيل المتداخل على مستوى البناء ، وبهذا السفر الطويل الدائم والعميق ، وبحركيته التي لا تعرف التوقف والسكون صعبٌ ومُغرِي ، وله طابع سحري على النفوس ، يدفعك إلى حياضه دفعا متواصلا ، ويحبب إليك القيام بعمل يخَلخِل بُناه الفكرية والنفسية والجمالية التي تترسب في دواخلك مع كل قراءة كمثل ورطتنا معه في فعل القراءة وهمومها ، راجين أن نتمتع ونستفيد ، ونسوق القارئ الكريم إلى هذا الينبوع المتدفق على سطح حياتنا الشعرية المعاصرة لنقارن ونقارب لعلنا نصل معه إلى معالم تمكننا من الإطلالة المفيدة والمحيطة في الآن نفسه بالرغم من قلة مما في يدنا منه .
قراءتي لشعر فرات ستقسم وكما جاء في العنوان إلى قسمين كبيرين : قسم أول يهتم بتتبع المعاني والمسافات عبر عوالم النفس ، ودروب الاغتراب ، ومآثر الجمال ، وقسم ثان يتتبع المباني والأنساق التي صاغتها شاعرتنا للمعاني المطروحة انطلاقا من خواص وميزات أساسية ، شكلت الوعاء الذي ساعد واحتضن ، وساهم في تكوين تلك المعاني وتأديتها ببراعة نسقية تتلخص في آليات التسلسل والتقابل والبناء ، والتلخيص ، والترميز ، وفي داخل كل عنوان هناك تشعبات وتجليات طارئة ومحكمة من جهة التشابك والتداخل ، والتفاعل بدرجات يستحيل معها استغناء المعنى عن المبنى ، والعكس كذلك منعدم ، ولا يستقيم في شعر شاعرتنا فرات .
مضمون الحلقة الخامسة :
2 – د – رسم المواقف وبناء الأحداث بشكل درامي ملحوظ : نحن في تصاعد مستمر في قراءتنا لشعر فرات إسبر ، وهنا سندلف إلى مَعلَم آخر من معالم البناء ، توفقت فيه الشاعرة كثيرا ، وتنوع في شعرها ما بين رسم المواقف ، وأعني به كل نهاية مختصرة تشعرك بقرار جديد ، يتحول في ذهنك إلى تأمل جميل مستفاد من مخاض عسير ، وعراك متواصل مع الحياة عموما ، وما بين البناء الدرامي للأحداث عبر خاصية الحكي المفتوح على كل التجليات الممكنة والمترامية في مختلف العوالم والآفاق ، وقد استطاعت الشاعرة بفضل هذه الخاصية أن تجوب بنا صحاري الأعماق ، وأن تركض بنا لمسافات عديدة ومتنوعة الأشكال والوقفات والوصفات ، تقول الشاعرة عن النوع الأول من قصيدة : ( أحوال المرأة ) :
لا أرى نفسي
لا أرى العالم فوقي ولا تحتي
غير ظني
أني قد أكون نبضا في جسد .
ومن أمثلته كذلك قولها من قصيدة : ( ترسمين شاطئا وتبكين حصى ) :
ختمت على قلبي بصمغ الأسرار
لا حب يدخل
ولا حب يخرج
هكذا أنا في اختناق .
أما النوع الثاني المتعلق بالبناء الدرامي للأحداث فقد خصصت له مقاطع شعرية مبعثرة بالمعنى الإيجابي ، تجمع ما بين الأمر بالفعل الدال على طلب الحركة ، وما بين الوصف والقول والاسترسال مع مجاري المعنى ، وتدفقاته الممكنة والطارئة والمفاجئة ، تقول في قصيدة : ( حقائب سفر للرياح ) :
انهضي الآن
هيئي كل شيء للرحيل
سنهرب الحب
وتغلق الدفتر القديم
وهكذا أنا في انتظار
ما بين الضوء والنهار .
قال لي : انحني لضوئك القادم في البعيد
أنت نور يشرق الكون به
ولكن
كل ليلة
انطفئي
انطفئي
لا أرى الضوء الذي هو أنا
في الوردة
في عطرها
في خصرها
بعض طيب منك
وحب
وهكذا
كل يوم
أفتح النوافذ
أراه
مضيئا
يقول لي :
أزلتُ العتمة من طريقي
لا تفتحي الحقائب
سأعود أول الضوء .
كل ما قلناه سابقا متجسد في هذا المقطع الشعري الجميل حيث يلاحظ تزاوج وتداخل في البناء بين مركزية الأسماء في التأسيس للمعاني ، وبين حركية الأفعال ، ولاسيما أفعال الأمر المساعدة على التمدد والانتشار ، بالإضافة إلى الوقفات الوصفية التي تشعر القارئ بنقط التوقف والانتقال والوصول .
2 – ذ – دور الرموز في بناء المعنى : أختم حديثي المقتضب عن معالم البناء بذكر خاصية الرموز كما استعملتها شاعرتنا في شعرها ، ومن اللافت الظاهر أن شاعرتنا وظفت المرأة في كثير من الاستخدامات الجميلة جدا ، وحسنا فعلت فهي بهذا كانت تستمد من نفسها ، وتغرف من حياضها ، وتتكلم مع نفسها ، ولهذا حالفها التوفيق بنسب كبيرة وكثيرة ، وتمسحت أقوالها بمسحة الصدق الحقيقي والطري المنبعث من الأعماق ، وساعدتها اللغة على ملامسة تلك الجوانب المظلمة من النفس والحياة ، وتحول الشعر لديها إلى بوح ووصفة ذاتية ، وهواء مستنشق ، ورؤية بصرية واضحة ، وملمس ناعم ، وذوق طافح بالشخوص ، والألوان ، متعدد في التمثيل والنمذجة ، ومسعف على الإفادة والإفاضة والاستفاضة معنى ومبنى ، وسأسعى إلى تكثيف الشواهد وتنويعها حسب القصائد حتى يتبين للقارئ حجم الاستخدام ، وحنكة الشاعرة الفنية ، وإيمانها الراسخ بمعتقدها الرمزي ، تقول في نموذج أول من قصيدة : ( حائرة مثل النجوم ) :
امرأة تستعير من النجوم أحزانها
وتزداد إشراقا بالضوء،
كي لا تـأكلها الهالات السوداء.
متوهجة مثل عطارد،
لكنها ترى اليباس شقيّاً في مواسم النور.
تلمع مثل نجمة في الأعالي
تطير كما يحلو لها
ترفرف
ثم تعلو
ثم تعلو.
امرأة
في السماء ،
في بعدها الأرضي، تدور.
مالحة مثل البحيرات
في نوافذ الضوء، تزرع الأمل
والمواسم قطاف أليم .
وتقول في مثال ثان من قصيدة : ( كاشفات الغيب ) :
أفتح قلبي
تخرج ،امرأة سوداء
تقطف النجوم ..
ابتسامات غامضة
موسيقى الحفاة سرقت أقدامها،
إلى رقصة تشبه الانتحار
هي هكذا ..
لا تخضع لتواريخ النساء
حافظات السر
كاشفات الغيب .
وتقول في نموذج ثالث من قصيدة : ( ثمرة ناضجة ) :
امرأة
بقلبٍ مفتوحٍ
وعينٍ واسعةٍ
تهزُّ شجرة الروح
يسقطُ كلُّ شيء أمامها
الحياةُ
العينُ
القلبُ
الروح
بنظرةٍ طويلةٍ
وابتسامةٍ عميقةٍ
تُودِّعُ الحياة
تُوَدِّعُ ما رأتْ
وما سترى
بنظرةٍ عميقةٍ
وابتسامةٍ طويلةٍ
ترى كلَّ ما كانَ
وما سيكون
ليستْ عرافةً
كانت حدساً
يضيء
كانت
ثمرةً ناضجةً .
وتقول في مثال رابع من قصيدة : ( فراشات تحوم حول قبري ) :
كالماء أمضي
أغيب كشراع
العاصفة تشتدُّ
الغزاة قادمون
امرأة تجمع صيدها
وتبتعد إلى ما هو أبعد .
لقد سطرت لنا الشاعرة بواسطة رمز المرأة رحلة الأبد التي لها بداية ، وليست لها نهاية ، ويسستطيع القارئ أن يشعر بتلك الرجات المتبدلة والمصاحبة للرحلة المذكورة ، ليس على منحى العوالم المقحمة والمستعملة فقط ، وإنما حتى على صعيد الصور واللغة ، وهي العملية الأساسية في عملية البناء الطويلة والشاقة .
فالانتقال من الاسم الصريح إلى الضمير وما شابهه في تأدية المعاني المدركة والمتخفية ، القريبة والبعيدة ، والتجول في أعماق النفس ، وتتبع حركية الجسد ، ومحاولة إيجاد المعادلات الموضوعاتية المناسبة للمعنى المراد ، بالإضافة إلى استعمال تقنيات لغوية مناسبة للقول المراد من مثل التشبيه ، وكثرة الالتفات والانتقال ما بين درجات البناء حسب ما يقتضيه أسلوب التكلم والخطاب والغيبة من زوايا متنوعة للانطلاق ، ومسافات للتمدد والسفر والاسترخاء ، ونهايات آمنة ومطمئنة وهي قليلة جدا ، وأخرى مفتوحة على البعد والغيب واللامتناهي وهي السائدة والمتحكمة……كل هذا وغيره يدل على أننا أمام شاعرة من طراز خاص ، يجمع كل المتناقضات ، ويبحث عن الفهم والخلاص بكل ما أوتي من أفعال ، وأمام شعر مكتنز وحافل ببؤر الجمال ، يمكننا من فرص متاحة للانتشاء والحصول على متع الإبداع الأصيلة التي تدمج الإنسان بمفهومه الوجودي مع الحياة بمعانيها الواقعية المتداخلة والمتعارضة والمتناقضة .
ملاحظة : شعر فرات إسبر شعر معطاء ومتدفق على أكثر من واجهة ، ولرموزه وبنائه ولغته نصيب كبير من معاني ذلك العطاء والتدفق ، ووددت لو كان تحت يدي بمجموعاته الخمس لما وقفت عند حدود هذه الحلقات الخمسة ولكن آمل وأعد بالرجوع إليه وبتفصيل أكبر يليق بمقامه وبمضامينه الفكرية وتجلياته الإبداعية الجميلة .