4 ـ المكتوب والمقروء
« المغرب الذي نريد » بحرٌ طَموحُ الموْج يهال منه المُتقاعس، ويشُقُّه من يمخر الريح، هذا ما كان الشاهد، بالأحْرى، يُمنِّى النَّفْسَ به. عملُ اللجنة، من حيث الصناعة، عملٌ تشاركي، اختلافي، بل وخلافي حول كثير من الموضوعات. أما التقرير، من حيث الصياغة، فهو إنجاز توافُقي بامتياز. بالوصف هذا ينْبغي أن يُؤْخذ، ويُنْظر إليه، وتحت النَّعْت هذا يجوز الحُكْم له أو عليه. قاعدة منهجية مشهورة، وراجحة، لابد من التقيُّد بها عند القراءة. اطَّلعَ الشاهد على بعض ما كُتب حول التقرير. تعدَّدت القراءات والمكتوب واحد. مدحٌ، وقدحٌ، ونقدٌ، وتحليل قليل. في باب النقد، وهو المُسْتحبُّ، هناك السهم العائِر، والسهم الطائش، و « من الخواطِئِ سهمٌ صائب ». « القراءة الآثمة »، يقول الباحث سعيد يقطين (القدس العربي، ١٦ غشت ٢٠١٦)، « إثمٌ » في حق القارئ، لأنها تعبير عن « سوء الفهم »؛ وهي أيضاً « إثمٌ » في حق المقروء لأنها تنم عن « سوء الظن ». ل «سوء الفهم » أسباب من بينها القراءة المُتسرِّعة، المتجزئة، المُتحرِّفة. أما « سوء الظن » فلعِلَّةٍ ما في منهجية القراءة، أوْ لِ « حاجة في نفس يعقوب ». يكتفي القارئ ب « الملخص التركيبي » (١٨ ص)، ويزعم أن التقرير جاء مُخيِّباً للآمال، ناقصاً، مليئاً بالثقوب. يذهب إلى «التقرير العام » (١٥٨ ص) فيزعُم أنه لا يُفصِّل بما يكفي لا لشيء سوى للتَّمْويه، ومُخاتَلة الشيطان الكامن في التفاصيل. يُحيلُه « التقرير العام » على «المذكرات الموضوعاتية » (٣٥٠ ص) فيخال أن ما وُضع، لغاية المقروئية، في سُلَّة «الملحقات » ليس يُعدُّ من المشمولات التي تدخل ضمن النموذج التنموي الجديد. عوار القراءة الآثمة أنها تُعيد كتابة النص، فيحُلُّ المقروءُ مكان المكتوب. يقرأُ الشاهد للبعض فيجد أن ما قُرِئ ليس هو ما كُتِب. بل شتَّان بين الإثنين. «سوء الظن » يأتي من «بعض الظن ». لكل قارئ نظر، وجهةُ نظر، موقف، وتقديرُ موقف. لا يجد البعض ضالَّته في التقرير فيحكم بالبطلان، أو بالنقصان.« المسكوت عنه »، بالنسبة للبعض الآخر، ليس إلحاقاَ بالمنطوق، وقياساً على المنصوص، بل تحرُّجاً من تسْمية الأشياء بأسمائها، وتهيُّباً من تخطِّي« الخطوط الحمراء ». تُكيِّفُ الذاتُ وجهةَ النظر، تنْسلُّ إلى المقروء خِلْسة فإذا بالكُلِّيات تتردَّى إلى الجزئيات. عبثاً يُجْهد القارئُ نفسه بحثًا عن الخيط النظري الناظم للمكتوب، حيث تتشابه عليه النظريات المفترضة، والأدبيات المتخيلة. يَودُّ البعض لو أن التقرير أتى نصّاَ نظريًا، أو إيديولوجياً. لكنه ليس كذلك، وما كان له أن ينحو هذا النحو. تركيبة اللجنة، المختلفة والمتنوعة فكرياً، وإيديولوجياً، لا تستقيم مع الصياغة الأُحادية. هي محكومة بقانون التوافق، لا مفر. ليس المكتوب، في المحصلة، سوى الصيغة الأمثل للتوافق حول الأفضل. التوافق عملية بُرْهانية، شاقة، مُضْنية، لا تتأتَّى سوى بالموازنة بين الذات والموضوع، بين ال« أنا » وال« آخر »، بين « الأنا » المُماثِل و« الأنا » المُبايِن، بين « الأنا » و« الأنا الذي ليس أنا » (سارتر).
5 ـ الراوي والشَّاهد
في رواية « اللجنة » لصنع الله إبراهيم، يتوحَّد كلٌّ من البطل، والراوي، والمؤلف. في التدوينات هذه المُكرَّسة للنموذج التنموي الجديد يتوحَّد الراوي، أو السَّارد، مع الشَّاهد. ساردٌ « جواني » وشاهد « من أهلها » (أي اللجنة الخاصة). سرْدٌ ذاتي، « انعكاسي » ( réflexif)، بمفهوم بورديو (Pierre Bourdieu)، وشهادةٌ من بين شهود. يُصيخُ الشاهد السَّمْع إلى تدخلات الأعضاء المختلفة، والمتباينة، والمتجافية في بعض الأحيان فتتبدَّى له، بجلاء، المسافة الفاصلة بين « الأنا » و«الأنا الذي ليس أنا ». مسافة لا يقطعها التمايُز، أو التفاضُل بين الآراء، بل يردمها التكامل، عملاً بالقاعدة الجِدالية للإمام الشافعي : « قَوْلي صوابٌ يحتمل الخطأ، وقَوْلُ المخالف خطأ يحتمل الصواب »، وتكون الرُّجُوحية بصحة الدليل وبقوَّته. الجدل، عند المناطقة، « قياسٌ مؤلف من مشهورات أو مُسلَّمات ». وهو يقوم، في السياقات التفاوضية، على الاستدلال العقلي، حيث تكون غايتُه التجاوز، والتوافق، والتسوية العملية. وقد يجترح المزايدة، والمقايضة، والمخاتلة لكسب المفاوضة، كما هو الأمر في « نظرية المباريات » أو « الألعاب » (Théorie des jeux)، التي تُفْضي، في آخر المطاف، إلى « لعبة صفرية »، لا أحد فيها رابح، بل الكل خاسر. تُشدِّد « نظرية الضبط » (Théorie de la régulation) على المسعى التَّفاهُمي في سيرورة التفاوض لتجاوز التناقض بين الفاعلين، ولإعادة بناء علاقات اجتماعية متقدمة. يقول الراوي : تحيَّزتُ إلى « نظرية الضبط »، في بداية التسعينيات من القرن الماضي وأنجزتُ، في إطارها وتحت سقْفها، أطروحةً جامعية في موضوع « ضبط العلاقة الأجْرية في المغرب » (منشورات كلية العلوم الاقتصادية، والاجتماعية، الرباط، ١٩٩٢). نظرية الضبط امتدادٌ، وتحيينٌ، وتكييفٌ للفرضية الماركسية المتعلقة بتطور الرأسمالية في المدة الطويلة، وبدور الأزمات في تجاوزها، والسلوك منها نحو أنماط إنتاجية وعلاقات اجتماعية تَهْمد فيها التناقضات، ويَخْمد فيها الاستغلال. فرضية « ميل معدل الربح إلى الانخفاض » في المدة الطويلة لم تصدق كما تشهد على ذلك التجربة التاريخية التي أبانت عن قدرة لامتناهية للرأسمالية على تخطي الأزمة، وتجديد أنماط الاستغلال، وتطوير أشكال الهيمنة. مع « التحول الكبير » (Karl Polanyi) الذي عرفته الرأسمالية « الفوردية »، أو « الكينزية »، سوف تُدْرك الطبقة البورجوازية أنها لن تتَوقَّى «حفر قبرها بيدها» (ماركس) سوى بالتفاوض، والتوافق، والتعاقُد على توزيع فائض القيمة. في نفس المنظور، لكن على الصعيد الميكرو اقتصادي، يخْلُص « اقتصاد الاتفاقيات » Economie des conventions)) إلى أن « اللعبة التعاونية » « لعبة بين ذاتية »، تأخذ في الحسبان موجِب « الأنا »، ومُسوِّغ « الآخر »، في نفس الآن.
يَسُوق الراوي هذه الإضاءة النظرية السريعة لتبيُّن « الصيغة المنهجية » التي كان الشاهد يرى أن ليس هناك بُدٌّ من اعتمادها من طرف اللجنة في اشتغالها، وتداوُلها. صيغة لا تُسِرُّ « الأنا »، ولا تُجْهِرُ به كل الجهر، كما أنها لا تُسْقِط « الآخر » من الحساب، ولا تُسيءُ الظن به. « استراتيجية تداوُلية » (بمفهوم هابرماس) تقوم على تفاعُلية الاسْتفْهام، والتفهُّم، والتفاهُم التي سبقت الإشارة إليها.كما يسوقها (أي الإضاءة النظرية) تفاعُلاً مع ملاحظة، جاءت على أكثر من لسان، بعد صدور التقرير، تتعلق ب « الخطوط الحمراء » التي قيل، وإنْ هُمْ إلاَّ يَظنُّون، إنَّ اللجنة قد وضَعتْها عن طواعية، وهوما يَجْلوهُ الراوي عن الشاهد في موْضِعٍ آخر.