التطبيع أنواع. منه الرسمي، السياسي والدبلوماسي، وهو المدخل، وجواز المرور لكل الأنواع المختلفة الأخرى. للتطبيع الرسمي أسباب غير مكشوفة، لا يُدركها الجمهور، يقال عنها إنها مرتبطة ب “الدولة”، وب “المصالح العليا للبلاد”، ويتم الحسم فيها داخل الغرف المغلقة.
لا أريد أن أجادل في صوابية هذا القول لجهل مطلق بالحيثيات والملابسات الخفية، والخافية سوى عن “عقل الدولة” (هيجل). النوع الثاني اقتصادي وتجاري، وعلى الصعيد هذا ما من شك في أن لدولة الاحتلال، « حبالٌ » جيو اقتصادية يُخيَّل إلينا، مِنْ تفوُّقهم، أن التقدُّم لا يأتي سوى بفضْلها. رؤوس المال، التي لا ملَّة لها ولا وطن، تنجذب إلى عروضها المغرية مأخوذة، مأسورة، وتندفع إلى التطبيع دون أن تلوي على شيءٍ.
نَعَمْ قد تحصُل على بعض المنافع، وقد يُتاح لها أن تلج إلى سلاسل القيمة المنيعة، والأسواق السوداء المُجْزية. لكن اللعبة تظل صفرية أو بالأحرى سلبية، بحساب المنفعة الوطنية. الشراكة الاقتصادية التي يقوم عليها اقتصاد التطبيع هي، في طبيعتها، شراكة غير متكافئة، من خلالها تسعى دولة الاحتلال إلى إسقاط “كلفة الصفقات”، والوصول، بلا وساطة، إلى الخيرات العربية، من النيل إلى الفرات، تمتص منها كما يمتص النحل الرحيق. النوع الثالث مُقيَّد بالشرط المدني، أو الشعبي، وهو الشرط المفقود، بدونه لا يكتمل التطبيع، ولا يَغْشَى واقع الحال. ما يَضادُّ أمْرَ التطبيع هو أمْرُ الوجدان، الشعبي بالخصوص.
الوجدان لا يمتثل لأهواء السياسة، ولا يتحرك تحت الطلب. الوجدان عرفان ببواطن التطبيع السياسي، لا تنطلي عليه الحيل المحبوكة من وراء حجاب، ولا يُخيَّل إليه أن « حبال » التطبيع الاقتصادي تسْعى بالتقدم. ما حدث خلال مونديال قطر هو انتفاضة الوجدان العربي، انتفاضة باللسان، هادرة، كاسحة، لافظة للتطبيع، صادحة بفلسطين، رافعة لواءها أمام الملأ، مُردِّدةً مع الشاعر أمل دنقل : « لا تُصالِحْ، ولا تتوخَّ الهرب »، « لا تُصالحْ، ولو توَّجُوكَ بتاج الإمارة »، « لا تُصالحْ، فما الصلح إلا معاهدة بين نِدَّين ».