إذا كنتَ في عشقٍ ؛ فأنت لا محالة خاضعٌ لحُكمِه ، وحكمته ، وحميميته ، وحميته ، وحرارته ، وحاله ، وحربه ، وحرثه ، وحدسه ، وحلوله فيك ، وحُريته ، وحركيته ، وحمْله ، وجذبه ، ووجوده ، وتمكُّنه منك ، وسيطرته على جوارحك ؛ لأنه ببساطةٍ ويُسرٍ ودون تعقيدٍ يمنحك فردوسك المفقود ، ويحل لك كل العُقد ، ويفكُّ لك معضلاتك ، ومشكلاتك في الحياة ، وما أكثرها في حياة كلِّ إنسان منَّا .
ولو أن كل عاشقٍ فينا تناول القلم ، وكتب سيرته في الحُب ؛ لعمَّ العشق بين الناس ، وأدركوا قيمته في حياة القادة ، وأهل الفكر ، والفقه ، والسياسة وسواها ، مثلما فعل ابن حزم الأندلسي الذي سجَّل سيرته العشقية في كتابه العمدة ، الأشهر إنسانيًّا بين العالم ” طوق الحمامة في الألفة والألَّاف ” ، حيث كان هاديًا ” إلى الحياة العاطفية لعددٍ من معاصريه ، ورفاقه ، الذين شغلوا مناصب رفيعة في الإدارة ، والقضاء ، والجيش على أيامه ” ، كما يذكر الطاهر مكي في مقدمة تحقيقه لكتاب ابن حزم (384 – 456هـجرية / 995 – 1063ميلادية ).
هل يقدر- في زماننا – فقيهٌ أو شيخ أو قاضٍ أو عالم أو صاحب مركز أو منصب في الشرطة أو الجيش أن يكتب سيرة عشقه؟
الإجابة بالطبع هي : لا ؛ لأننا صرنا أكثر تراجعًا وتخلُّفًا ممَّا كان يحدث في زمن ابن حزم ، وهو الفقيه الظاهري والعالم الأشهر في زمانه .
وقد يقول أحدهم إنني أخجل من الحُب وأراه من التوافه أو من النوافل في الحياة ، ومن ينادي به يستحق الرجم ، فنحن مشغولون بما هو أجدى من الحُب ، وهو لا يعي ولا يدرك أن البيوت لا تتأسَّس ، ولا تقوى أعمدتها على الحمل والتحمُّل إلا بالحُب ، وإذا خربت النفوس ، وقحلت القلوب وتكسَّرت ، فلا يمكن أن نكون بشرًا أسوياء ، فمثل هذا يُرد عليه بقول الصحابي أبي الدرداء : ( إني لأستجمّ نفسي بشيءٍ من اللهوِ ” ، وفي نص آخر : من الباطل ” لأتقوَّى بذلك فيما بعدُ على الحقّ) ، ويرد عليه أيضًا بمئات الأسانيد والنصوص ، ولعل من أشهرها : ( إِنَّ هَذِهِ الْقُلُوبَ تَصْدَأُ كَمَا يَصْدَأُ الْحَدِيدُ ) .
ومن المفترض أن زماننا قد ارتقى وازدهر وتحضَّر ، لكنَّ الكثيرين من أهله يرون أن الحُب عورة ، ومرض ، ومحظور ، وحرام ، وممنوع ، ومُنكر ، وفاحشة ، ومعصية ، ورذيلة ، وباطل ، وغريزة دنيئة ، ومذمَّة ، وعيب ، ومبعث الضرر ، وقلة تربية وأدب ، وجنون وذُل ، ولا يفقهون أن الحُب يحوِّل الإنسان من جبانٍ إلى شجاع ، ومن بخيلٍ إلى كريمٍ سخي ، ومن غليظ الطبع إلى ظريفٍ باسمٍ ضاحكٍ ، ومن جاهلٍ إلى متسامٍ مدْرِك وعارف طبائع النفوس ، ويجعل الغافل فطنًا ، والغبي ذكيًّا ، والعشق يجدِّد الحياة ، ويجلو العقل ويهذبه ، ويحسن الخلق ، ويصفي الذهن والفهم ، ويبعث على السُّرور ، والسعادة ، ورضا النفس ، والرحمة ، ويحمل الإنسان إلى مرتبة النقاء ، ومقام الصفاء والألفة .
يقول الفضل بن سهل راويا عن ذي الرياستين عن فضل العشق بأنه : ( يطلق اللسان العيي ، ويرفع التبلد ، ويسخي كف البخيل ، ويبعث على النظافة ، ويدعو إلى الذكاء ) .
ونحن نعيش بالحُب ، ولا نتحلَّى به أو نتزيَّن ، ونجعله شارةً فوق رؤوسنا للمُباهاة والامتياز عن أقراننا ، نزيد به وصلنا ، كي يزداد اتصالنا بالمحبُوب ، بلا مُفارقة ، أو مُباعدة ، أو نأي ، أو ملل ، أو سأم .
الحُب هو الأوَّل والأنجع لمداواة النفوس من أكدارها ، وأمراضها ، وهواجسها ، وشكوكها ، وآلامها ، ووساوسها .
ألم نر الخليفة العباسي عبد الله المأمون (170 هـجرية ، 786ميلادية – 218 هـجرية ، 833 ميلادية ) – وهو سابع خلفاء بنى العباس ، وكان أميرًا للمؤمنين – يطلب من ثمامة بن أشرس أن يعرِّف له العشق ، فقال ثمامة : ( العشق جليسٌ ممتع ، وأليفٌ مؤنس ، وصاحبُ مُلكٍ ، مسالكه لطيفة ، ومذاهبه غامضة ، وأحكامه جائزة ، ملَكَ الأبدان وأرواحها ، والقلوب وخواطرها ، والعيون ونواظرها ، والعقول وآراءها ، وأعطي عنان طاعتها ، وقود تصرفها ، توارى عن الأبصار مدخله ، وعمي في القلوب مسلكه ) ، فقال له المأمون : أحسنتَ والله يا ثمامة ، وأمر له بألف دينار .
وعَنِ الأَصْمَعِيِّ ، قَالَ : دَخَلْتُ عَلَى هَارُونَ الرَّشِيدِ (763 – 809 ميلادية / 149 – 193 هـجرية ) ، فَقَالَ لِي : يَا أَصْمَعِيُّ إِنِّي أَرِقْتُ لَيْلَتِي هَذِهِ ، فَقُلْتُ : مِمَّ ؟ أَنَامَ اللَّهُ عَيْنَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ ، فَقَالَ : فَكَّرْتُ فِي الْعِشْقِ ، مِمَّ هُوَ ؟ فَلَمْ أَقِفْ عَلَيْهِ ، فَصِفْهُ لِي حَتَّى أَخَالَهُ جِسْمًا مُجَسَّمًا ، قَالَ الأَصْمَعِيُّ : لا وَاللَّهِ مَا كَانَ عِنْدِي قَبْلَ ذَلِكَ فِيهِ شَيْءٌ ، فَأَطْرَقْتُ مَلِيًّا ، ثُمَّ قُلْتُ : نَعَمْ يَا سَيِّدِي ، إِذَا تَقَادَحَتِ الأَخْلاقُ الْمُتَشاكِلَةُ ، وَتَمَازَجَتِ الأَرْوَاحُ الْمُتَشَابِهَةُ أُلْهِبَتْ لَمْحَ نُورٍ سَاطِعٍ يَسْتَضِيءُ بِهِ الْعَقْلُ ، وَتَهْتَزُّ لإِشْرَاقِهِ طِبَاعُ الْحَيَاةِ ، وَيُتَصَّوَرُ مِنْ ذَلِكَ النُّورِ خَلْقٌ خَاصٌّ بِالنَّفْسِ مُتَصِّلٌ بِجَوْهَرِيَّتِهَا يُسَمَّى الْعِشْقُ ، فَقَالَ : أَحْسَنْتَ وَاللَّهِ ، يَا غُلامُ ، أَعْطِهِ وَأَعْطِهِ وَأَعْطِهِ ، فَأُعْطِيتُ ثَلاثِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ ” .
وقال ابن القيّم الجوزية (691هـجرية – 751هـجرية /1292 – 1350ميلادية ) وهو فقيه حنبلي في القرن الثامن للهجرة : ” بالمحبة وللمحبة وُجدت الأرض والسمواتُ ، وعليها فُطرت المخلوقات ، ولها تحركت الأفلاك الدائرات ، وبها وصلت الحركات إلى غاياتها ، واتصلت بداياتُها بنهاياتِها ، وبها ظفرت النفوس بمطالبها ، وحصلت على نيل مآربها ، وتخلصت من معاطبها، واتخذت إلى ربها سبيلاً ” .
أما يحيى بن معاذ ( 830 – 871 ميلادية ) ، وهو أحد علماء أهل السُّنة والجماعة ومن أعلام التصوف السني في القرن الثالث الهجري ، فيقول: لو كان إليَّ من الأمر شيء ما عذَّبتُ العشَّاق، لأن ذنوبهم ذنوبُ اضطرارٍ لا ذنوب اختيار.
ومن قبله قال علي بن أبي طالب (23 قبل الهـجرة / 599 ميلادية – 40 هـجرة / 661 ميلادية ): ( … ، الحب أساسي ، والشوق مركبي ) .
وقال المتنبي:
( وعذلتُ أهل العشق حتى ذقته
فعجبتُ كيف يموتُ من لا يعشقُ )
وقال المرزباني ، سئل أبو نوفل: هل سلم أحد من العشق فقال : ” نعم الجلف الجافي الذي ليس له فضل ولا عنده فهم “.
نحن العرب سُلالة حضارةِ عشقٍ ، عُرِف شعراؤها العشَّاق الأساسيون في الشِّعر والعشق ، وهم من أهل الطبقة الأول في الغزل بأسماء معشوقاتهم مثل : قيس ليلى ، قيس لبني ، جميل بثينة ، عروة عفراء ، عنترة عبلة ، وكثيّر عزة ، … وسواهم ممن حملن أسماء حبيباتهم ، وحفظهم وعرفهم التاريخ بذلك .
لا يعرف عشق المرأة إلا أرباب البصيرة ، بينما أرباب البصر – فقط – فهم يحسنون النظر إلى جسدها ، وحسنها ، وزينتها ، وهذا البصر لا أنفيه عن أهل البصيرة ، ولكنني أردت أن أؤكد أهمية البصيرة أولا عند النظر إلى المرأة ، ومن بعدها البصر .
فإذا كانت البصيرة فريضة ، فإن البصر نافلة . لأنها تكشف وتبصر ما هو محتجب ، ولا يدرك ذلك إلا العارفون :
( وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ
فكَشْفُك لِى الحُجْبَ حتى أراكَ ) .
* ahmad_shahawy@hotmail.com