كان المثقف يواجه السلطة باعتبارها راعية للتخلف والرجعية، ثم دخل “الإخوان المسلمون” على الخط، بمشروع سياسي أخطر وأكثر رجعية من السلطة نفسها، فصار المثقف مضطرا للعمل على جبهتين، معارضة السلطة والإسلام السياسي معا، ثم ما فتئ أن اكتشف بأن الضربات تأتيه من جبهة ثالثة كان يعتبرها ضحية، وهي المجتمع الغارق في التخلف نتيجة الترويض الإيديولوجي السابق للدولة التي حولت الاستبداد إلى ثقافة وتيار عام سائد.
صار الوضع أكثر تعقيدا من أن يحتمله بعض المثقفين، فغادروا الساحة مفضلين الصمت والتأمل، بينما فضل بعضهم التحالف مع السلطة ضد “الإخوان” والسلفيين، بينما لاذ بعضهم الآخر بالدروس الجامعية التي لم يعودوا يتخطونها، وفضل آخرون أن يتحولوا إلى خبراء يتقاضون أجرا على معرفتهم دون أن يكترثوا بما ستفعله المؤسسات بجهودهم. وهؤلاء هم الذين لا يتوقفون عن تكرار عبارة أن المثقف الطليعي الذي يؤطر المجتمع انتهى ولا حاجة إليه اليوم.
أما الفرقة التي بقيت على عهدها القديم، أي مواصلة المواجهة ضد مظاهر التخلف في الدولة والمجتمع والإيديولوجيات العابرة للقارات، فقد صارت مهمتها أكثر صعوبة، إذ سرعان ما وجدت نفسها في معمعان جديد هو شبكات التواصل الاجتماعي التي تحتفي بالعنف والتفاهة، وتزدري الفكر والقيم الديمقراطية، حيث يمكن لشخص يرقص متشنجا في الشارع أن يصل إلى ملايين المتابعين، كما يمكن لامرأة تظهر مفاتنها أو شخص ينطق الكلمات بشكل مقلوب وخاطئ أن ينتصرا على أكبر الفلاسفة والمفكرين والمصلحين، بل وحتى على رئيس الدولة نفسه، كما يمكن لأي مواطن، حتى ولو لم يكن له حظ من التعليم، أن “يعقب” على مقال علمي لا يفهم شيئا من مضمونه، بالاستهجان والاستخفاف مستعملا عبارات بذيئة في حق كاتبه. كما أن معيار صدقية الأفكار والمضامين لم يعد في ما تحمله من رسائل ومعارف، بل فقط في عدد المتابعين، مما جعل رواد هذه الشبكات يبحثون عن رفع نسبة المتابعة بأية وسيلة حتى ولو كانت مغرقة في الهذيان. بل حتى الحملات الشعبية من أجل مطالب مشروعة أصبحت تتعرض للتحريف حتى تصبح أكثر إثارة، فتتحول إلى شعبوية فجة غايتها إشاعة الكراهية، في غياب التأطير والوعي المواطن.
وضعية المثقف صارت في غاية التعقيد، وعلى الذين يلومونه على “استقالته”، رغم الجهود التي يبذلها، أن يدركوا بأنه ليس هو الذي تغير، بل العالم من حوله، وأن يفهموا بأن صوت العقل لا يلام إذا غطى عليه الصخب والغوغائية.
لكننا مرة أخرى لسنا في نهاية التاريخ، بل فقط في منعطف من منعطفاته، في نهاية مرحلة وبداية أخرى، وسيكون على المثقف قراءة دلالاتها الجديدة واستخراج معانيها، لأن تلك وظيفته التي لا يمكن أن يقوم بها غيره.