كتب الصحفي الإسرائيلي تسفي برئي مقالا نشرته صحيفة هارتس أمس الإثنين، حول الأديب المصري الذي رحل عن دنيانا أول أمس، تحت عنوان “كيف ننظر إلى أقوال وآراء الراحل المصري جابر عصفور؟.
وأدرج تسفي بداية المقال، قولا نسبه لجابر عصفور، يقول فيه :“التطبيع يعني عملاً يتمتع من نفذه بفائدة مالية أو روحية”، مؤكدا أن كاتب الأعمدة ووزير الثقافة المصري السابق الدكتور جابر عصفور، في العام 2009. اضطر إلى هذه الصياغة المتعرجة ليوضح موقفه من ترجمة كتاب ألّفته الشاعرة المصرية إيمان مرسيل، إلى اللغة العبرية. كتاب “جغرافيا بديلة” (إصدار الكيبوتس الموحد، ترجمة ساسون سوميخ)، وهو ما أثار عاصفة عامة كبيرة في مصر، حيث يعدّ إعطاء تصريح الترجمة للغة العبرية خرقاً لأحد القواعد الأساسية التي تبناها المثقفون والأدباء، والتي بحسبها يجب عدم تطبيع العلاقات مع إسرائيل حتى بعد اتفاق السلام الذي وقعت عليه الحكومة.
وأضاف الكاتب الإسرائيلي، على أن عصفور، “الذي كان في حينه المسؤول عن مشروع الترجمة القومي الذي تشكل بأمر من الرئيس حسني مبارك لتقريب الجمهور في مصر من الأدب العالمي، قرر أن يترجم أيضاً كتباً من اللغة العبرية إلى اللغة العربية، ونشرها في مصر. عندما سئل في مقابلة مع المجلة الأدبية المهمة “أخبار الأدب”، ما إذا كان لا يرى أي تناقض بين معارضته للتطبيع وترجمة كتب عبرية، أجاب: “لم أوقع على أي اتفاق مع أي دار نشر إسرائيلية كي لا تذهب أموال المصريين إلى أيد إسرائيلية”. وأكد أن الترجمة من اللغة العبرية ستتم من قبل شركات أجنبية، من الإنجليزية أو من الفرنسية إلى اللغة العربية”.
وتساءل تسفي :” وماذا بشأن ترجمة الأدب المصري إلى اللغة العبرية؟ أجاب عصفور: أفضل ألا تتم الترجمة إلى العبرية بموافقة الكتّاب. إذا سرقوا أدبنا فهذا موضوع آخر”. ولماذا أصلاً نترجم من العبرية؟ “يجب أن نعرف عدونا ونفهم نقاط قوته وضعفه، هكذا يمكنني أن أفهم بماذا يفكر وماذا يحيك ضدنا”.
وفي معرض حديثه عن أهمية وقيمة الراحل عصفور، أوضح الكاتب الإسرائيلي، أن جابر عصفور الذي توفي في الأسبوع الماضي عن 77 سنة، خلف تراثاً أدبياً يتمثل بعشرات الكتب والمقالات والتحليلات، التي حصل عنها على جوائز كثيرة، وأساسها الانشغال بمسألة التنوير. في أقوال التأبين التي ألقاها المثقفون الكبار في مصر وفي الدول العربية، أطلقوا عليه “المناضل الكبير من أجل التنوير”، و”طلائعي التنوير المصري” و”رمز التنوير”، الذي انبرى لمحاربة المحافظة والقتال ضد الراديكالية الدينية وضد ما اعتبره جموداً ثقافياً. لم يتردد عصفور في مهاجمة زعامة الأزهر، وهو المؤسسة الدينية الأهم في الدول الإسلامية، ومقره في مصر.
وتابع، كان تعيين عصفور، العلماني واليساري حسب مواقفه، وزيراً للثقافة في 2014 من قبل الرئيس عبد الفتاح السيسي، بمثابة بعث للأمل بأن توجه الرئيس هو المصالحة مع طبقة المثقفين الليبراليين الذين تلقوا ضربة قاسية عندما تم انتخاب الرئيس السابق محمد مرسي، رجل الإخوان المسلمين. لكنه أمل تبدد في فترة قصيرة، واعتُبر تعيينه في هذه الأثناء رخصة للبدء في ثورة ثقافية، غربية وليبرالية، ليس للأزهر مكان فيها.
ولم تفت الصحيفة الإسرائيلية التذكير بالخلاف الشديد مع الأزهر كان في 2014 عندما حظرت المؤسسة الدينية عرض فيلم “نوح” بسبب الأسلوب الذي تم فيه تجسيد شخصية النبي نوح، خلافاً لتعليمات الشريعة. “الأزهر لا يسيطر علينا. بل نخضع للدستور”، قال عصفور. “لا يوجد في الشريعة أي أمر يمنع تجسيد شخصية الأنبياء. وفقهاء الأزهر لا يعرفون ما يتحدثون به”. في السنة نفسها، نشر مقالاً في صحيفة “الأهرام” كتب فيه: “الخطاب الديني ليس هو الدين، ونصوصه غير مقدسة. هذا الخطاب هو ترجمة لفهم الإنسان للكتابات المقدسة”. ورد على انتقاد حاد لرؤساء الأزهر: “أعتبر المقالات التي يكتبها عدد من فقهاء الشريعة في الأزهر دليلاً على تميزهم بضيق الأفق”.
معرجة، جهود المصالحة بينه وبين الأزهر لم تنفع. أُجبر عصفور على الاستقالة من وظيفته، وعاد لكتابة أبحاثه ومقالاته، التي واصل فيها انتقاده الشديد للأزهر، وسماه “مؤسسة تنتج إرهابيين متطرفين”. في مقابلة مع المجلة الأدبية “الجديد” قال: “تطور الخطاب الديني إلى خطاب إرهابي هو من علامات ثقافة التخلف. هذه الثقافة لا تسعى إلى الحوار ولا تتحمل اختلاف الآراء. من يؤمن بها يعتقد أنه هو صاحب الحقيقة، وغيره مخطئ؛ لذا هو كافر تجب إبادته”. مواقفه الليبرالية من ناحية، والمقاطعة الثقافية التي فرضتها النخبة المثقفة على إسرائيل من ناحية أخرى، خلقت معضلة لعصفور، التي -حسب رأيه- لا يمكن للمقاطعة الثقافية أن تتعايش مع الانفتاح الثقافي. ولكن هذه المعضلة كانت ظاهرية؛ فعصفور نفسه “تجاوز الخطوط” عدة مرات والتقى إسرائيليين في مصر وخارجها. وعندما فاز الكاتب دافيد غروسمان في 2017 بجائزة “بوكر” عن كتاب “حصان واحد دخل إلى البار” قال عصفور في مقابلة مع صحيفة “اليوم السابع” المصرية بأن “فوز غروسمان أمر طبيعي. لأن لإسرائيل حضوراً دولياً مهماً، وهي جزء من المجتمع الدولي. إسرائيل فازت بجائزة نوبل للأدب في 1966 قبل أن يفوز بها نجيب محفوظ. ويجب القول بنزاهة بأن الأدب الإسرائيلي يستحق الجوائز العالمية… نحن ننشغل بالصناعة والتجارة، لكنها في المقابل تعكف على الثقافة والأدب والبحث العلمي”. هذه التصريحات سببت له الكثير من المشكلات مع أصدقائه. لأنهم اعتبروه “مثقف الدولة” وخادم الرئيس، ووجدوا صعوبة في تبني نزاهته الفكرية.