ما الذي يشكل الأسرة؟ وما الذي يجعل من الأسرة أسرة؟ إنه سؤال متشح بأجوبة عصيبة، لها أكثر من بعد عاطفي وفكري أثناء ترحل الأسرة من النشأة والنمو صوب الاكتمال واللامتوقع من النهايات، تسمى السنوات التي يقضيها الفرد في الأسرة بـ ” دورة حياة الأسرة “، وهي نظرية دينامية دالة على مجموع العمليات والمراحل العاطفية والفكرية التي تمر منها الأسرة في مسار حياتها، من مرحلة التودد وتقارب الشريكين إلى وفاة شريك الحياة أو هما معا، أو بالإعلان عن نهايات التفاعل الأسري أو توقفه، فيما الأسرة الممتدة تحظى بالاستمرارية في تاريخها العائلي وتقاليد طقوسها،
وهذه الاستمرارية تقوي الأجيال الجديدة والوحدات الأسرية بالمقارنة مع الأسرة النووية، فيما الأسر بصفة عامة في تطورها التنموي تسمح للعضو فيها بالتطور المستمر والدينامي ببناء مهارات واكتساب أدوات جديدة تساعده على التعامل مع المتغيرات التي تمر منها كل أسرة غالبا، ولا يمر الجميع بهذه المراحل بسلاسة، إذ لكل مرحلة تحديات واحتياجات ليست على مثال سابق، بحيث يجب على جميع أعضائها إنجاز مهام بطرق ما، ومن خلال هذه المهام تتطور الأسرة وتمضي مراحل التنمية الأسرية قدما، أو قد تتراجع خلال دورتها، وقد تعتريها أزمات صحية ومشاكل مالية أو فقد لأحد الأحباء أو ضغوطات يومية أو فقدان عمل أو الطلاق أو غيرها من التحديات والعقبات التي تؤثر على طبيعة مرور أعضاء الأسرة بهذه المراحل، ويمكن أن تؤثر هذه الضغوط سلبا على نموها الطبيعي، غير أن تعلم مهارات أنماط التواصل والتفاعل وتحسين نوعية حياة الأسرة في كل مرحلة، وكذا استثمار طرق تحسين أفرادها يمكن أن يساعد في إدارة حل المشكلات والانتقال الى المرحلة التالية بشكل أكثر فعالية.
هذا ولقد تم تطوير نظرية دورة حياة الأسرة لأول مرة في عام 1960 تقريبا، وهي إحدى الأدوات المركزية التي يمكن استخدامها في تقديم الاستشارات الأسرية والزوجية، وفهم تعقيدات تطور الظواهر السريرية على مسار دورة حياة نمو الأسرة. ويمكن تقسيم الحياة الأسرية إلى عدة مراحل مختلف في مؤشرها الكمي بين علماء الاجتماع وعلماء النفس وغيرهم من الباحثين الاخصائيين والمرشدين الأسريين والممارسين السريريين… وتشكل هذه المراحل بيانات مفيدة لفهم التغيرات التي تحدث في الأسر على مدى فترة من الزمن، وفي تعالقها الثقافي الخاص. وقد لا تتبع كل أسرة نفس النمط وقد لا تتوافق كل أسرة مع توصيفات مراحل الحياة الأسرية بطريقة ميكانيكية، إذ أنماط دورة حياة الأسرة دينامية تختلف عبر الثقافات وتتغير مع الزمن التاريخي، لكن أغلب الأسر تهدف إلى خلق الحياة التي تناسبها وفق القواعد التي تنشؤها والمتوافقة مع خصائص مهندسيها وتفضيلاتهم المشتركة والحياة التي يريدونها، إن التنقل العضوي لمراحل دورة حياة الأسرة يعني العثور على حياة ذات معنى ورضى مستقر يناسب جميع أفراد العائلة مهما كانت تشكيلتهم والمرحلة التي يمرون بها وهي:
المرحلة الأولى: تودد وتقرب وهي فترة مثالية لكيفية تطوير العلاقة مع التركيز على الزواج بدلا من الخطوبة في كثير من الحالات، ومهمتها المشتركة التحضير المسبق لبدء دورة الحياة الأسرية، وتبادل المغازلات والانجذابات والرومانسيات الطويلة أو القرب الحميمي ولزوم ما لا يلزم، وكلها علاقات لظواهر حديثة نسبيا. وتتميز هذه المرحلة على وجه التحديد بالعثور على شخص للزواج، أو تصفية الأشخاص الذين لا تتوافق أهدافهم وقيمهم مع بعضهم البعض، كما كانت هذه المرحلة في الماضي تستخدم كوسيلة للآباء للإشراف على عملية توحيد وتزويج أبنائهم، كما يمكن إدراج مرحلة الخطوبة ضمن مرحلة التودد والتقرب وإن تضاءلت نتائجها.
المرحلة الثانية: الاقتران وهي الاقتدار على الدخول بشكل كامل في علاقة مع شخص آخر وعقد للزواج، وهي فترة البداية التأسيسية للوحدة الأسرية المشتركة من شخصين تزوجا، ولكن ليس لهما أطفال بعد، ومهمتهما الأساسية مشاركة الأهداف، وتكييف الاحتياجات، وتسهيل الانتقال من مفهوم الرعاية المستقلة للأفراد الى الترابط بين الزوجين.
المرحلة الثالثة: أن تصبح الأسرة ثلاثة خلال السنوات الأولى من حياتها بوصول أول مولود لها أو تابع من خارج الأسرة، مهمة مهندسي الأسرة توفير الاحتياجات النمائية لهم، ويعتبر تابعا كل احتضان أسري لأحد الوالدين أو الأشقاء أو أي بالغ خارج الأسرة أيا كان عمره، وتلبية احتياجاته المعيشية والأمنية والتقديرية محبوبة إلى حد الواجب …
المرحلة الرابعة: وتتميز بالبدء في الخروج الجزئي للطفل إلى المدرسة، أو خروج الأشخاص التابعين إلى المستشفى او دار رعاية أو مؤسسة أخرى خارج الأسرة. وتظل ميزة هذه المرحلة في مساعدة الأفراد في التوسع والانفصال عن الأسرة.
المرحلة الخامسة: وتتميز بتعزيز التوسع المستمر في حالات الفصل الجزئي، ودخول آخر عضو غير مسؤول من الأسرة الى المجتمع المحلي الأكبر.
المرحلة السادسة: وتتميز بخروج كامل لأحد أفراد الأسرة المعتمدين من وحدة الأسرة، وتيسير إنشاء وحدة أسرية بديلة وتسهيل تشغيلها بتمكين العضو المغادر من القيام بوظائف أسرية أساسية داخل الأسرة.
المرحلة السابعة: أن تصبح الأسرة أصغر حجما وممتدة، وتتميز بدخولها فصول النهايات، وخروج لآخر فرد من أفراد الأسرة أو آخر طفل من الأسرة الي العالم الخارجي لإقامة أسرة مستقلة، وتصبح المهمة الرئيسية للمرحلة تعزيز التوسع المستمر للاستقلال، حيث فراغ عش المنزل من الأطفال البالغين، وعودة الزوجين وحيدين كما كانا في البداية، بالتركيز على الزواج بدون أطفال، وتنظيم العلاقات وتطويرها لتشمل الأصهار والأحفاد في اختلاف عما كانت عليه في الماضي. وبالمقابل قد تتسم هذه المرحلة باحتياج شديد من العديد من الآباء الى التكيف مع الأوضاع الجديدة، مع ما قد يعرضهم إلى مشاعر معقدة، منها ما هو إيجابي كالتخفيف من ضغوطات أدوارهم، أو ما هو سلبي كالشعور بفقدان أدوارهم التقليدية، وما إلى ذلك من صعوبة التفاوض الزواجي بشأن مهام المرحلة…
المرحلة الأخيرة: وهي مرحلة نهايات النمو الأسري حيث التقاعد وسنوات الشيخوخة والحاجة إلى الرعاية الصحية والدعم والمساندة من طرف الأبناء والأقران والأشقاء …، كما تتصف هذه المرحلة بالانشغال الدائم بالتفكير في الموت خصوصا بعد وفاة الزوج(ة)، إن لم يكن قد حدث في وقت سابق، بالإضافة إلى اشتمالها على عيش لحظات الخبرة والحكمة من الحياة المنصرمة وما تبقى منها.
وأخيرا من الواضح أن فهم دورة حياة الأسرة له فوائده العاطفية والفكرية، ذلك أنه عندما يفهم الفرد التحديات التي قد يواجهها في كل مرحلة، يمكنه آنذاك تطوير أدواته ومهاراته واستراتيجياته اللازمة لمقاومة التغيير للانتقال إلى المرحلة الموالية بكل دينامية ونجاعة، بحيث إذا مكث أحد الأشخاص عالقا في إحدى المراحل، وواجه صعوبات في الانتقال وإحداث التغييرات الكبيرة في حياته، بحكم قوة ضغوطات الحياة، والاجهاد اليومي، ونزول الأقدار الإلهية خارج عن سلطان الأفراد، فإن المهارات والقدرات التي تم اكتسابها خلال المراحل السابقة لدورة حياة الأسرة يمكن تعزيزها بأخرى أكثر احترافية من خلال زيارة أخصائي الاستشارات الأسرية للانتقال السلس خلال مراحل الحياة ومواجهة مشكلاتها بكل تقبل والتزام.
* كوتش أسري وكاتب صحفي