الغايب حجتو معاه!
هذا مثل مغربي، لا يراد منه التماس العذر كحجة للغياب أو تبرير سبب الغياب، بقدر ما يعبر عن علة كافية بالمعنى الميتافيزيقي اللايبنتزي للغياب الذي لا يعني فقط أن كل ما يحدث للذات له علة، وإنما يعني بأن مفهوم الذات ينطوي على كل ما يحصل للذات، أو ما هو من لواحقها. أي أن كل ما يحصل في الشيء أو في ذات ما هو منطو في مفهوم الشيء أو الذات. إنه الانعطاف l’inflexion الذي يحصل للشيء أو الذات، وهذا الانعطاف هو الحدث المنطوي في هذا الشيء أو تلك الذات.
1 ـ ليس المشكل في المؤسسات، بل في الأشخاص الذين يطابقون بين ذواتهم والمؤسسات التي ينتسبون إليها، دون أن يبذلوا أي جهد سوى في تضخيم ذواتهم، وتبخيس جهد الآخرين. هؤلاء وقعوا ضحية جهد بذلوه من أجل نيل اللقب، كغاية قصوى، وتناسوا بفعل هذا الإجهاد المفرط في سبيل هدف هو بحد ذاته مجرد وسيلة من أجل إبداع انماط الفكر والإنتاج البشري أن ينخرطوا في تطوير خبراتهم الذاتية، والتفاعل مع تجارب الغير، بدل أن ينطووا على ذواتهم، وأن يصبحوا حراسا للمعرفة والفكر والإبداع، وأن يملأوا العالم صراخا وانزعاجا من جراءة المفكرين الأحرار على التفلسف وإبداع الفكر. هكذا يشكل مرضى المؤسسات عقبة في سبيل التاريخ، غير أن هذا التاريخ يلقي بهؤلاء في مزبلة العدم، وينصف بالمقابل المفكرين الأحرار الذين ليست غايتهم سوى إبداع الفكر.
طوبى لسبينوزا ولايبنتز وكل الفلاسفة العظام الذين تحرروا من المؤسسة لهذا السبب عينه، سعيا منهم في كمال أعظم لا يغني فيما بعد المؤسسات وحسب، بل يغني العالم برمته.
2 ـ لا يحتاج العالم سوى لمبدأ لكي يكون ممكنا؛ والحال أن المبدأ ليس شيئا آخر سوى علة وجود شيء بدلا من عدمه. إذن ثمة مبدأ أو علة يوجد كشرط إمكان وجود، بما هو إمكانية كل ممكن يصير وجودا. هذه القضية هي منبع السؤال عن الوجود لا بصفة وجوده المحض، بل بوصفه عالما يتعين كموجود فينا أو إزاءنا. هنا تكمن مفارقة المبدأ والعلة، أي أنه إذا كان الوجود بمحض الوجود، فهذا معناه أن الوجود المكتفي بذاته هو من غير علة. لأنه حتى لو افترضنا أنه هو عينه علة ذاته، كونه منطويا على علته، كما هو الشأن في ميتافيزيقا سبينوزا، فهذا معناه في نهاية المطاف أنه من غير مبدأ أو علة، كونه وجودا يوجد وجودا محضا كجوهر مطلق الضرورة لا مطلق الإمكان. وفي مطلق الضرورة يستحيل تمييز المبدأ أو العلة عن الوجود حتى ولو كان الوجود ينطوي في العلة، أو كانت العلة منطوية في الوجود. بمعنى أن كل ما افترضناه مبدأ وعلة لا يوجد في شيء آخر، سوى في ذواتنا، وليس في الوجود عينه بما هو وجود. إذن لكي يوجد الوجود أفترض كما زعم أرسطو أن ثمة علة غير معلولة على الإطلاق، أو أفترض كما زعم سبينوزا أن الوجود هو علة ذاته، وفي كلتا الحالتين ثمة وجود بدلا من لاوجود، وهذه بداهة مكتفية بذاتها. غير أن ما هو غير بديهي هو فكرة المبدأ أو العلة عينها، لأنه غير مكتف بذاته كما الوجود، لسبب بسيط مفاده أنه لا وجود لعلة أو لمبدأ إلا في ذواتنا، فنحن وحدنا نتصور كل مبدأ و كل علة للوجود، أما الوجود عينه فهو غير معني بأي مبدأ وعلة كونه يوجد وفقط. وبما أن العلة توجد في الإنسان وحده، بوصفه منطويا على تصور العلة، فإنه يصير وجودا ممكنا من خلالنا. لهذا لا يحتاج العالم سوى لمبدأ أو علة لكي يكون ممكنا كعالم وحسب، في اتجاه ميتافيزيقيا مغايرة لأرسطو ولسبينوزا في الآن معا.
3 ـ بأي معنى يصير الحب فلسفة أولى؟
قبل أن تنشغل الفلسفة بالحب، وقبل أن يكون الحب ثيمة فلسفية في صلب الإشكالية التي ينكشف فيها الحب داخل العلاقة بالغير، بمختلف تجلياته اللامحدودة، والتي لا تقبل الاختزال في صورة ما بعينها، كحب الحبيب للمحبوب، أو كرغبة ذات ما في ذات أخرى، كحب غيري، أو رغبتها في ذاته عينها كرغبة في الذات عينها، كحب نرجسيي مماثل، أو كحب لأشياء بعينها، كحب الطبيعة وما في الطبيعة يكون جديرا بالحب، مما قد ينتج عنه حب التملك، أو كحب مجرد، كونه يتعلق بالماهيات بصفة عامة، مما قد يكون داخلا في حب الجواهر المطلقة كحب الله، أو حب الخير والحق والجمال، أو في حب صفات الجواهر وأحوالها، كحب التدين والسلوك الأخلاقي وحب التعبير من خلال مختلف ألوان إبداعات الفنون والجماليات، والصناعات الثقافية التي تشكل الأفق الروحي للكينونة بعامة. أعني قبل أن تنشغل الفلسفة بالحب كثيمة عابرة لكل الموضوعات، يكون الحب، بمقتضى ماهية الفلسفة هو الفلسفة الأولى، كون الفلسفة لا تتعلق بالأنطولوجيا مباشرة، إلا من خلال الحب. أو بالأحرى إن الحب في واقعة الفلسفة سابق على كل أنطولوجيا، وبذلك فهو جدير أن يكون هو الميتافيزيقا عينها، وليس الإيطيقا على نحو ما ذهب إليه لفيناس، لأن هذه الإيطيقا إذا كانت هي الرغبة في الآخر مطلقا، فهي في ماهيتها حب ليس إلا، لأننا إذا فصلنا الرغبة عن الحب صارت من غير أساس ومن غير توجه، من حيث أن الرغبة والحب هما الشيء عينه، من حيث الأساس. ببساطة شديدة ليست الفلسفة بحكم التعريف القديم، هي حب الحكمة. وإذا كان الأمر كذلك، يصير الحب هو الفلسفة الأولى، قبل أن يكون موضوعة للفلسفة، وقبل أن ينكشف في كل أنماط الوجود والتعبير والحياة برمتها. باختصار بدون حب لا تصير الحكمة ممكنة قط.
4 ـ من ينير سبل الإنسانية، لا يمكن إلا أن يحيا في ضمير البشرية جمعاء، لذلك كان جديرا بالخلود أو بالأبدية المشمولة برعاية المطلق اللامتناهي. أليس هذا هو ما هو معلوم من الأنطولوجيا بالضرورة والتي تشمل -بالضرورة- كل ما هو معلوم من أشياء أخرى بالضرورة، بما فيها ما هو معلوم من الحياة بالضرورة، وما هو معلوم من علوم الطبيعة بالضرورة، وما هو معلوم من علوم الإنسان بالضرورة، كما تشمل أيضا ما هو معلوم من الدين بالضرورة، أعني الدين، كما يفهم في أفق الأنطولوجيا، وليس كما يفهم في أفق حراس العقيدة، أي في أفق من ينصبون أنفسهم أوصياء على العدالة الإلهية؟
5 ـ في أن الحب يدرك بالعطف لا بالتعاطف
أعني أن الحب عطف في الوجود، لأنه مجرد رابطة بين معطوف ومعطوف عليه. لذلك كان الحب علاقة بين معطوفين كلاهما يوجد بقدر الانتماء للوجود، و من أجل الغير مطلقا، ودون مقابل، لا بقدر التملك. وهذا معناه أن الحب قد يكون كمالا أعظم بما هو تشارك في تقاسم المحبة، وقد يكون كمالا أقل، بالقدر الذي يكون فيه المحب راغبا في رغبة أخرى، في حين أن المحبوب المرغوب فيه، لم تتحقق في ذاته بعد الرغبة في حب من يرغب في حبه، أو كونه غير مبال بقيمة الحب على الإطلاق، ومع ذلك يظل هذا الحب في كلتا الحالتين حبا حقيقيا، لأنه بالأساس بدون مقابل. فأن تحب معناه أن تنعطف تجاه الغير محبة على الإطلاق، دون أن تتوقع ان تحصل وأنت الفائض حبا تجاه الغير، على مقابل لهذه المحبة التي سعيت نحوها من غير قيد أو شرط تعويض. وهذا معناه أن الحب من العطف وليس بالضرورة من التعاطف.