مراسلة الدكتور التجاني بولعوالي/بلجيكا
في رحاب كنيسة العائلة المقدسة في مدينة فارخم البلجيكية، وبحضور شخصيات وازنة من مسلمين وغير مسلمين، نظم مركز الجسر يوم الجمعة 29 أبريل إفطارا رمضانيا متميزا كان فرصة كبيرة للتقريب الثقافي والديني بين مختلف مكونات المجتمع الفلامانكي التعددي، ومد جسور التفاهم والتسامح والتعاون بين المسلمين والمسيحيين والعلمانيين.
وقد افتتحت هذه الفعالية الرمضانية بالآية 13 من سورة الحجرات، التي تتضمن أحد أهم المقاصد من خلق الإنسان في قبائل متنوعة وشعوب مختلفة، وهو التعارف بكونه الوسيلة الناجعة لتجاوز الصراعات والنزاعات والمشاحنات، وتحقيق الاطمئنان النفسي، والتوافق المجتمعي، والسلم الدولي. وقد تضافر صوت المقرئ الساحر ومعنى الآية في اللغة الهولندية المعروض على الشاشة لخلق جو روحاني تلاشت في خِضمّه الحواجز المذهبية والإيديولوجية، ليعُم السكون عبر المكان وفي الوجدان. كانت في الحقيقة لحظة وجودية استثنائية تحت قبو كنيسة كاثوليكية عتيقة، ينتصب على أحد جدرانها الصليب، وينبعث من منصتها الأمامية صوت القرآن الكريم ساحرا يخلب الوجدان ويشد الأذهان.
ثم تلت ذلك كلمات جميلة وبليغة من متحدثين مختلفين حول جمالية الصيام ورمزيته، حول إرث الهجرة الذي أغنى به المغاربة الأوائل منذ ستينيات القرن الماضي منطقة الفلاندر الشرقية، وحول التسامح الديني حيث بصمةُ النبي محمد صلى الله عليه وسلم تظل متجذرة، كما جاء على لسان راهب الكنيسة.
وعندما حان وقت المغرب، انطلق المؤذن يصدح في قاعة الكنيسة التي كانت آهلة بالرجال والنساء والأطفال، بالمسلمين والمسيحيين واللادينيين، وقد كانت لحظة أخرى يعجز لسان الحال عن التعبير عنها، ليس فقط لما خلفته عبارات الآذان من سكينة وهدوء وطمأنينة، بل أيضا لما حملته من رسائل روحية لنفوس في واقع تنهكه الماديات والاغتراب وثقافة الاستهلاك.
بعدما انتهى المؤذن من أذانه انطلقت كل مائدة تنهل مما لذّ وطاب من المأكولات والمشروبات والحلويات، يتخللها حديث بهي وجميل عن مختلف القضايا، بدءا بدعاء إفطار الصائم، مرورا بعادات الطعام المغربي، وصولا إلى الحوار الاجتماعي والتسامح الديني والتقارب الثقافي.
إن مثل هذه المناسبات تُظهر في الحقيقة عكس ما تروجه وسائل الإعلام المؤدلجة، ويدعو إليه السياسيون الشعبويون، حيث ما يطلق عليه حوار الواقع أو الحياة الذي يمارسه المواطنون العاديون يكشف عن زيف الصور النمطية السلبية التي ينسجها كل طرف عن الطرف الآخر، ولاواقعية التوجسات المتبادلة بين الذات والآخر، بين الأنا والهو، وبين الغرب والإسلام.
وفضلا عن ذلك، فإن الإفطارات الرمضانية التي أصبحت تشكل تقليدا راسخا في المجتمعات الأوروبية والغربية التي يعيش فيها المسلمون، تكشف عن قابلية أكيدة متبادلة بين مختلف شرائح المجتمع للتعايش الإيجابي فيما بينها، ودليل ذلك أن شتى المؤسسات الرسمية والجمعوية والتربوية والدينية ما انفكت تنخرط في هذا التقليد الحسن، وقد رأينا كيف تدعم مختلف البلديات ماديا ولوجيستكيا مثل هذه المبادرات، وكيف تفتح المدارس والجامعات أبوابها لمثل هذه الفعاليات، وكيف تنظم الشركات والمحلات التجارية الكبرى هذه الأنشطة، واليوم رأينا وعايشنا وعشنا في مدينة وارخم كيف عبر المسلمون عن استعدادهم التام للتعاون مع الكنيسة دون أي توجس أو ارتياب، بل ورصدنا كيف سمحت كنيسة العائلة المقدسة باستضافة المسلمين في عقر دارها. وأكثر من ذلك، قبلت الكنيسة بتلاوة القرآن الكريم ورفع الآذان وتخصيص مكان للصلاة داخلها. تُرى هل ثمة أكثر من هذا التسامح المتبادل بين أعداء البارحة الذين لم يعبروا فقط عن رغبة أكيدة في التعايش والتآخي والتعاون بل انطلقوا يترجمونه على أرض الواقع؟