لاشك أن الحفل العائلي الخامس والعشرين يعتبر منعرجا أساسيا بالنسبة لنا جميعا. ويمكن القول أن ما قمنا به جميعا من خلال الأنشطة التذكارية الأربعة: عرصة أنكمة الحاجة خديجة الشاو والنصب التذكاري لدادا أحماد المنوزي وساحة الإخوان والرفاق ، وفيلم ابراهيم أوعابد تندرج كلها ضمن معالجة الصدمة الجماعية ( traumatisme collectif)
الناتجة عن عواقب انخراط آبائنا في مسلسلات سياسية معقدة تخللها العنف المتبادل بين الفاعلين السياسيين والدولة. وقد تركت نزاعات الماضي تلك ، آثارا عميقة على عدد كبير من أفراد العائلة من الجيل الأول والثاني والثالث. وإذا أخذنا بعين الإعتبار عنصر سياقات الوقائع وتوقيتها وفاعليها ، وما ترتب عنه من قراءات ومراجعات ( فكرية وحزبية ودولتية ) بتقييم كل تجربة على حدة وكلفتها المادية والمعنوية ، وتضحياتها من أجل التقويم في العلاقة مع المشاريع الثورية والتنموية والبناء الديمقراطي المنشود ، وكذا وسائل تفعيلها ؛ ومن منظور التوجه المستقبلي وأخذا بعين الإعتبار أنه لا يمكن للأجيال الصاعدة التي لم تعش تلك النزاعات أن تظل مثقلة بذلك الماضي وعواقبه. لأن التعلق العاطفي والوجداني، بل السياسي بالماضي دون نقده وكذا دون الإستفادة من قراءات أصحاب المشاريع ( السياسية أو المجتمعية ) والمتعاطفين معه ، لا يمكن إلا أن يولّد عكس الحكمة والعبرة من الإسترجاع والتذكر ، وعلى سبيل المثال لا الحصر ، لا يمكن لسوء التذكر و الإرتهان عليه إلا أن يولد تجربة شيعية للتعذيب الذاتي إن صح التعبير، يظل أصحابها يتباكون على الأئمة علي والحسن والحسين (رضي الله عنهم) في مسلسل لا نهائي من الجلد والسوط الذاتيين يؤلمون خلاله أنفسهم ويؤذون ذويهم دون أن يسترجعوا ما يظنون أنهم فقدوه.
لذلك فليس الوقوف عند صدمات الماضي محاولة لإعادة الماضي وتكراره واسترجاعه بنفس التمثلات والتصورات في ظل التحولات السياسية والمذهبية الجارية، الخصوصية والمحلية منها والكونية ، سواء من الناحية النفسية أو الفكرية أو الثقافية و ناهيك عن السياسية. ليس القصد من الوقوف لحظة وهنيهة عند الماضي محاولة لإحياء برنامج سياسي عرف خيبات وخيمة ، إن لم نقل فشلا ذريعا ، والتنكر للهزيمة التي مُنِيَ بها. إن المقصود هو معالجة صدمة جماعية أصابت الفاعلين السياسيين والمرتبطين بهم من رفاقهم في درب النضال وأقربائهم وذويهم وأصدقائهم. والحال أن المحن التي عاشها الجيل الأول ترتبت عنها آثار مستديمة تعرقل نمو الأجيال الصاعدة التي عليها أن تعيش حياتها بأقل الأضرار النفسية والذهنية والوجدانية والاجتماعية. ومن هذا المنطلق ، ومن باب توضيح الرهان ، و في ظل هشاشة بنيات التأطير وتردي آليات الدفاع المدني ؛ وفي ظل حصول بعض القطائع الصغرى غير المكتملة ؛ ولأن الصمود يظل سياسيا ويتأثر بالموضوع المحيطي وسياقاته ؛ فإن الأنشطة التذكارية لم تكن لتستهدف تحقيق أهداف سياسية، لكونها لا تنطوي على أية لحظة جدلية صدامية مع الدولة ومؤسساتها ، ولا تتوخى خلق فعل سياسي يخلق النزاع مع أي طرف، فلا يعقل أن تحل العائلة محل المجتمع ، السياسي أو المدني . فالأنشطة التذكارية عملية بيداغوجية تستهدف مساعدة الفاعلين (من تبقى من الجيل الأول وأزواجهم وأرامل إخوانهم) والضحايا (من الدرجة الأولى والثانية والثالثة من الجيل الثاني والثالث) على استيعاب ما عاشوه ولحق بهم من المحن والمآسي من خلال خلق الوعي والإعتراف بالصدمة الجماعية والوعي وبتأثيرها عليهم. ومن جملة ما يتم به ذلك هو إدراك ما فقدوه والوعي بالألم والمعاناة التي سببُها المحن والعنف السياسي الذي انخرط فيه الجيل الأول من مسلسلات وعمليات سياسية لم يكونوا أحيانا واعين بحمولتها الإستراتيجية وطنيا ودوليا. وفي مقام ثان خلقت الأنشطة التذكارية لحظات مكنت الحاضرين من أن يعيشوا حدادا جماعيا ويستوعبوا تجارب حزنهم وغضبهم وإحباطهم وعدم العدالة واليأس. ومن جملة ما تم به هذا هو لحظات من البكاء الفردي والجماعي وطقوس الدعاء والترحم على المفقودين ، وتدبير لحظات من دقائق صمت وتبادل جماعي للأفكار والمشاعر .وفوق هذا كان الأهم في هذه العملية هو ، جبر الضرر بحفظ الذاكرة ، وذلك بالوقوف عند السياق التاريخي باستحضار أن ما لحق بنا من محن ومآسي لم نكن فيه وحيدين، بل كنا مرتبطين بأناس تقاسموا معنا وتقاسمنا معهم الشدائد والمحن ، وبالتالي فهي ذاكرة جمعية ؛ وقد جسمنا ذلك في ما سميناه بالصور الشبكية التي تحمل صور أشخاص يشاركونا تجارب و تحديات مماثلة والصعوبات. وقد كان القصد من الصور الشبكية هو فهم السياق التاريخي للصدمة الجماعية والتعرف على أسبابها وظروفها ، بغاية فهم أعمق لتعقيدها وتشابك ملابساتها العامة.
لقد بعثت الأنشطة التذكارية مشاعر متبادلة لدى الحاضرين وكان لذلك الأثر الكبير في معالجة الصدمة الجماعية، بحيث وجد الحاضرون الدعم لدى بعضهم البعض واشتركوا في تبادل التجارب وشعروا بنوع من الإعتزاز بالهوية المشتركة المتجددة التي لا تتعلق بإسترجاع الماضي من أجل بعثه وإحيائه. ومما لاشك فيه أن التضامن والدعم المتبادل الناشئ عن ذلك يلعب دورا قويًا في عملية الشفاء والمصالحة مع النفس .
أما تدشين المآثر التذكارية من عرصة عمتي الحاجة والنصب التذكاري لعمي أحماد والوقوف في ساحة الإخوان والرفاق ، فقد كان تجسيدا مكانيا وعينيا كان القصد وراءه هو المساعدة على تذكر الأحداث التاريخية والمحافظة على الذاكرة. ومما لاشك فيه أن للوقوف عند النصب التذكارية مفعولا علاجيا يذكرنا بالوقوف عند الأطلال في الشعر العربي كان القصد منه هوالتذكر ومعايشة طقوس تشفي الغليل. وأخيرا، وما هو أهم وهو أن الأنشطة التذكارية تخلق المناخ للحوار والأرضية المواتية للمصالحة مع الذات ومع الآخر ، وفي ذلك مصالحات بينية ، ومن شأن ذلك أن يساهم في شفاء الجروح وتمهيد الطريق للتعافي. أما الغاية النهائية للكل فهي العمل على النمو الجماعي والحيلولة دون أن تكون صدمات الماضي عرقلة قي سبيل التطور والتفاعل مع المجتمع وتنمية المرونة الضرورية كاستجابة للصدمة الجماعية. يمكن أن يؤدي ذلك إلى تغييرات إيجابية مثل زيادة العطف والتضامن والمشاركة الاجتماعية. وأخيرا فإن معالجة الصدمة الجماعية هي عملية معقدة وطويلة الأمد تتطلب التزامًا وجهدًا من عدد كبير من الفاعلين في المجتمع المغربي وأيضا من مؤسسات الدولة . وقد تستغرق سنوات حتى يتم معالجة الحدث الصدمي الجماعي بالكامل ويتم دمجه في الوعي الجماعي للمعنيين بالأمر وللمجتمع المغربي والدولة ومؤسساتها المسؤولين معا وشراكة عن استكمال توصيات هيأة الإنصاف والمصالحة وعلى الخصوص الشق السياسي منه من إصلاحات مؤسستية وجبر ضرر ترابي وإصلاحات تشريعية تعزيزا للبناء الديمقراطي المنشود .
تلك بعض من مقاربتنا للمناسبة ومارافقها من عملية إسترجاع وحفظ للذاكرة ، وكم نتمنى أن نكمل معا قراءة صفحات ماضينا باعتدال دون تبخيس ودون تقديس ، حتى نتمكن من طيها طيا عادلا ومنصفا ، فهل يصدق فينا القول أن شهداء الوطن كانوا أبطالا بلا مجد ؟ هو مجرد إستفهام إنكاري لن ينفع معه إلا الإستمرار والإصرار على تفعيل تدابير وضمانات عدم التكرار ، من قبل جميع الأطراف ، تكرار العنف والإنتهاكات والأعطاب والمغامرات ، تكرار كل التصرفات والتمثلات المسيئة لحاضر وطننا ومستقبل الأجيال الصاعدة والواعدة !
ـ رئيس منتدى ضميرالذاكرة والسرديات الأمنية