إن المفهوم الجديد للسلطة لم يستكمل شروط تمنيعه لسببين ، الأول أنه لم يواكبه نفس المجهود على مستوى تأصيل المفهوم الجديد للعدالة ، وهو الضامن للإنتقال الأمني ، أي تحقيق مطلب دمقرطة القوة العمومية وترشيد إستعمالها وإنفاذ القانون ، فالأمن القضائي كآلية رقابية تلعب دورا مؤطرا في تقييد وتقنين الممارسة وتحصينها من أي تعسف ينفلت على صعيد تداعيات سوء تصريف العقيدة الأمنية ، كتمثلات ومسلكيات وأخلاقيات كانت بالأمس حصريا مكرسة لحماية النظام وقاعدته السياسية والإقتصادية والإجتماعية فقط ؛ لذلك فبدون ضمان الأمن القانوني والحكامة القضائية يصعب الجزم بأننا انتقلنا ” قضائيا ” ، فكل ما يستطيع القضاة النزهاء والشجعان فعله هو دعم تحول هذا الجهاز إلى آلية لإنتاج الحقيقة القضائية المتوافق على إبرامها ، في إنتظار بلوغ حلم تكريس القضاء فعليا ، كسلطة دستورية متحررة من النزعة الفردانية والفئوية لمكونات منظومة العدالة ، ومستقلة عن بقية السلطات الدستورية والإفتراضية ، أي سلطة الأمر الواقع أي الإعلامية والإيديولوجية ( الدينية ) والسياسية والمالية ، والسبب الثاني ، للأسف الشديد ، يتجلى في كون العقل الأمني لم يستوعب بعد أهمية إستكمال مشروع دولة الجهات ، ودسترة مجلس الدولة كأعلى هيأة قضائية في مجال فحص شرعية ومشروعية القرارات الإدارية ، وطبعا تنصيب المجلس الأعلى للأمن مع تأهيل العضوية داخله بمكونات محصنة من الشعبوية الإنتخابوية والانتهازية السياسية ، كي يلعب أدواره السيادية تجاه كافة الخوارج .
وإن التحصين لا يعني سوى تخليق الحياة العامة وتحريك آلية المحاسبة ودعم ثقافة الحد من الإفلات من العقاب ، خاصة في ظل استشراء الفساد المالي الناتج عن الفساد السياسي والإداري ، والذي يُخشى أن يتحول إلى منظومة بنيوية من شأنها توفير مناخ الإدمان والتشبع بالفساد وثقافة الإفساد ، يتجاوز مستوى الإنحراف إلى المأسسة ، ثم يرتقي إلى درجة الجريمة المنظمة عابرة للضمائر والحدود ، ويتحول الإجرام إلى أمر بديهي ، كما يتم التطبيع ، بنفس القدر ، مع التفقير كجريمة ضد الإنسانية ؛ فكلما تم إضعاف وانتهاك الأمن الإنساني ، كلما تضخمت نسبة الإحباط والعنف وتقلص منسوب المقاومة وتمكن الخنوع من غالبية المواطنين ، وعلى الخصوص من شرائح الطبقى الوسطى ، وبذلك تتراكم بقوة مقومات الدولة الرخوة ، حيث تضخم القوانين وهشاشة آليات إنفاذه وإحترامه والإنضباط له ، فتعم الفوضى ويسود منطق النفوذ و القوة المفضي إلى منطق اللادولة ، فينهار الوطن .
لقد عشنا وعانينا خلال عشرية بكاملها من فوبيا إختراق الدولة بشعار ” الدين هو الحل ” ، وحاولت الدولة التحصين بجميع الوسائل وفق مأثورة “” اللهم ارحمني “” ، وهل يعقل مواجهة الخطأ بالخطأ ، كما يعالج الإرهاب بالإفساد ؟ وحتى لا يسقط حسنا الوطني في العدم ، علينا الوعي بأن الفساد في القطاعات الحيوية للأمة ( مادام فاقد الحماية لا يوفرها)، يهيمن ( أي الفساد) و يضعف آليات المناعة والدفاع الشرعي ويقوي هشاشة ثقافة الإصلاح السياسي ويجهض كل تراكمات الإنتقال القيمي والأمني ويعيق إرادة التحول الديمقراطي .