“ أصبح هم الكذب السياسي أن يرادف الهدف بالمستقبل. عكس ما تنقله الحقيقة من قول الواقع من الواقع أو ما سبق أن وقع، أي ترجيح كفة الماضي ..”
طرح سام هاريس في نظرية “المحلل الأخلاقي”، في مساق كتابه الفلسفي (الكذب) مشكلة جوهرية، في معنى أن تؤمن بفعل الكذب، الذي يهدم العلاقات ويحول المعاناة إلى حقيقة ناصعة البياض.
والحال أن انفصام المظاهر عن الواقع، وفشل وضع مستحضرات التجميل، لدى العديد من السياسيين، أضحى يؤزم منشأ الصدقية والضمير الأخلاقي للأشياء المتبادلة بين البشر. ثم إن معيار الصدق في كل ذلك، يؤثر بشكل مباشر في دال “التواصل” ووجوده الحتمي في العلاقات إياها.
ومع أن هاريس، يوائم متاهة “الانخداع” بنية الكذب، فإنه ينظر لاستنبات الفرص بينهما، على كبر وعظامة إغراءاتها وعدولها عن اللحظة الزمنية الفارقة، فإنه يمثل بها، لدرجة الإلقاء بنا في “تضاريس أخلاقية أشد انحدارا”، بل إنه يصف الفاعلين ب”القتلة واللصوص” الذين يغبنون المجتمع، ويتربصون به ويحفرون في أوهاده، ولا ينامون جيدا، بعد أن يكتشفوا تجربة أن كل ألاعيبهم مجرد خدوش محمومة في حياة بئيسة.
الصورة التي يحملها هذا المنظور الصادم ل”الكذب” الهاريسي، هو نفسه ما يفعله الكثير من الساسة في زمن الرويبضة، يفجرون مكبوتاتهم في توظيفات فجة من داخل العملية السياسية، وينظمون حملات التغرير دون هوادة، ثم يختفون أو يتغاضون عن وعودهم السابقة.
ويبدو أن ترسيخ هذه المظاهر العبثية في قاموس الانتخابات السياسية، قد ألفتها المجتمعات وصارت جزءا من نسيج المشاهد المتعارفة في باراديجم التحقير والتشويه الأخلاقي للبرامج السياسية المستهدفة، حتى إن فعالية “القلة الصادقة كملجأ وحصن” أضحت تائهة وذائبة في بحر الكذب والغش والإسفاف وانعدام الجدوى؟.
في أتون الحكومات المغربية المتعاقبة، ظهرت نماذج كسيحة، من برامج متقاطعة ومشوهة التخطيط، ولا رابط بينها، حيث تختفي لمسة التوجه العام والأساسي للعمل الاستراتيجي، وتتنابز عناصر الفعالية والتوجه الدقيق، في العديد من أولويات التنزيل والاستهداف. ما يعني، أن هناك تصنيعا عشوائيا لمتاهة العمل البرمجي وتخطيطاته على أبعد مستوى ممكن. وهذا يضعنا بالطبع أمام معضلة “تشويه الحوافز” وترتيب “أبعاد العقد السياسي”، وبالتالي “انتفاء الرؤية” والوقوع في شرك “الكذب المبرمج”؟.
يقول بريت بارومان، وهو باحث أمريكي متخصص في البحث والتقييم، والأدلة وممارسات التعلم، أن في بيئات الأحزاب السياسية التنافسية نسبيًا، هناك معضلتان مرتبطتان تجعل مواجهة المعلومات المضللة أمرًا صعبًا. أولًا، تواجه الأحزاب المتنافسة “مأساة العوام” فيما يتعلق بالمعلومات المضللة، حيث تؤدي بيئة المعلومات الصحية إلى أفضل النتائج الاجتماعية، ولكنها تحفز أيضًا الجهات الفاعلة الفردية على اكتساب ميزة انتخابية هامشية عن طريق تعكير المياه. مضيفا، أن الأحزاب ليست فردية، ولكنها مجموعات من المرشحين أو الأعضاء أو المؤيدين أو مجموعات المصالح المرتبطة، لكل منها مصالحها أو حوافزها. في هذه الحالة، حتى عندما تلتزم المنظمات الحزبية بسلامة المعلومات، فإنها تواجه معضلة “الوكيل الرئيسي” في مراقبة ومعاقبة الحزبيين المشاركين، حيث تخلق هذه المعضلات ذات الصلة حافزًا للأحزاب السياسية والمرشحين لتجنب الانخراط في أو تنفيذ استجابات برنامجية.
وعلى الرغم من شساعة استحقاق العمل السياسي بين مكونين جغرافيين متصاديين ومتباعدين، فإن سقف بارومان النظري، بالنسبة لمدى التزام القالب السياسي في ماكينة الانتخابات، هو بالضبط ما يصل علاقة البرامج المرصودة بالتأويلات السياسية وما يدور في فلكها، اجتماعيا كان أو غيره. فلا صفة أخلاقية تجمع النهرين، ولا حدود تفصل المسارين، دون تحديد مساق النظامية السياسية، وتشريعاتها واسترجاعاتها.
وهو الشيء الذي يطرح أفق التكريس الزمني والحاسم للمحاسبة والرقابة والتقييم المتوازن. وفوق كل هذا وذاك، تحقيق “الصدق” وتبليغه بالقدر الذي يجعل الفعل الديمقراطي في العملية السياسية، مقصدا استشرافيا متحولا على أكثر من صعيد، ومنطقا متدبرا واعيا بمكانة الأخلاق والقيم في كينونة “الدولة” وحكم “الشعب”.