( الشروط العلمية والمعايير الدولية )
خضعت المرافق العمومية الشبكية ( النقل والاتصالات والكهرباء والتطهير وغيرها ) في مرحلة من تاريخ المغرب (نهاية التسعينات ) لقاعدة التحرير التدريجي المؤطر والمواكب ، ورغم عدم جرأة الحكومات السابقة في تسربع مسلسل التحرير بالنظر لثقل الموروث الريعي وتردد هذه الحكومات في اتخاد قرارات جريئة لدمقرطة المنظومة الإنتاجية وتقنين السوق وحماية حقوق المستهلك ، بالرغم من هذا البطء والتردد فقد استطاع المرتفق في هذه المرحلة تحقيق الولوج الكامل للشبكة ( شبكات التلفون والأنترنيت على وجه الخصوص) وأن يستفيد من انخفاض الأسعار وارتفاع ملحوظ لجودة الخدمة، مما جعل الملاحظين يصفون هذه المرحلة بأنها فرصة لدمقرطة الاقتصاد والحد من تمظهراته الريعية وإدماجه التدريجي في الاقتصاد العالمي .
تحرير المرافق العمومية الشبكية وعلى رأسها مرافق البريد والهاتف والنقل كان مشروطا بضمان حق البلدان االفقيرة في مراقبة وتأطيرالسوق وأن تحفظ للمتعهد التاريخي ( اتصالات المغرب وCTM و RAM و ONCF و ONDA و ADM وغيرها ) الحق في وضع معايير الجودة وضمان المرفق العمومي والحد الأدنى للخدمة المجانية وغير التنافسية، بالإضافة إلى اعتبار هؤلاء المتعهدين التاريخيين وجها من أوجه سيادة الدولة لأنهم الراعي الفعلي للمرفق العمومي ولشروط الحد الأدنى من الخدمة العمومية أو ما سمي لدى فقهاء التحرير بالخدمة الشاملة service public universel.
أما المرافق العمومية الإستراتيجية ووالمسماة حيوية من قبيل مرفق التربية والتكوين والتنشئة الاجتماعية فقد تم اسثتناؤها من مسلسلسل التحرير في تلك المرحلة لدى كثير من البلدان، رغم ترخيصها بولوج الخواص لأداء هذه الخدمات إلى جانب الدولة بشكل محدود، فقد استمرت في الفصل بين مجال التنشئة الاجتماعية كمجال محتكر للدولة ومجال السوق المسمى مجال التكوين والتمهين والرفع من كفاءة المواطن وقدراته. الفصل بين هذين المجالين يعني استبعادا لقوانين التنافسية كشرط جوهري لتحرير هذه المرافق وهو ماخلصت إليه أغلب الحوارات العمومية التي فتحت حول الموضوع في عدد من البلدان والتي أخرجت إلى الوجود كتبا بيضاء حول التحرير المحدود الحدر والذكي للمرفق العمومي للتربية والتكوين، أغلب هذه النقاشات في جامعات القانون والاقتصاد ولدى عدد من البرلمانات الأوروبية كانت تنهل من مرجعيات القانونين الإداري والدستوري أكثر من مرجعيات الاقتصاد والقانون العام الاقتصادي، كما أفضت هذه الحوارات الوطنية إلى تبني عدد من السياسات العمومية والمنهجيات التحريرية التي أصرت على ضرورة التمييز بين جانب التربية والتعليم والتكوين من جهة واعتباره سوقا من الخدمات قابل للتنافسية ويحتاج إلى تقوية المبادرة الحرة وتمكينها من تطوير هذا السوق وجعله قادرا على مسايرة التكنولوجيات الحديثة وجانب التنشئة الاجتماعية من جهة ثانية مع اعتباره مجالا حصريا للدولة تستمر في أدائه بواسطة متعهد تاريخي بالمرفق العمومي بغرض تنشئة مواطني الدولة على قيم العمل والمسؤولية والانتاج والدفاع عن الوطن.
وعموما فإن تحرير هذا المرفق العمومي لا يعني بالضرورة إخضاعه الكامل لقواعد السوق والتنافسية التي تم تطبيقها عند تحرير المرافق العمومية الشبكية، وذلك لعدة أسباب يمكن العودة إليها في مقال لاحق حول الطبيعة القانونية لتسليع الخدمات (المرافق العمومية)المرتبطة بضمان الحقوق والحريات الدستورية الأساسية.
ومن نتائج ذلك أن مفهوم الاحتكار العمومي سيستمر في بسط ثقله على سياسات تحرير خدمات التربية الوطنية والتكوين على عدة مستويات:
- على المستوى المالي: يظل المتعهد التاريخي هو المحتكر الرئيسي لتمويل الدولة وهو يحتاج في ذلك إلى الرفع من موارده المالية بواسطة ضرائب لانقاد التعليم بالنسبة للبلدان التي تم تصنيفها دوليا في مستويات متأخرة في أداء الخدمة العمومية للتعليم وكذلك فهو مدعو للمطالبة باستحداث رسوم عن الدبلومات والشواهد التي تمنحها المدارس والمؤسسات العمومية تستقطع من المشغلين ومن الضريبة على الدخل والمطالبة بمنحه عوائد رسوم عن المستوى الإشهادي الإلزامي المؤدى عنه الذي تتولاه الدولة لإخضاع خريجي المؤسسات الخاصة للإشهاد بصحة الدبلوم ( النمودج الكندي) وكذا رسوم معادلة بعض الدبلومات للدبلوم الوطني / العمومي.
دور الدولة كمقاول عمومي في هذا النشاط لاينحصر في انتظار مردودية مالية مباشرة لنشاط مقاولاتها ومؤسساتها العمومية من خلال تقييم محاسباتي ضيق ولكن هذا الدور يبدو جليا عند انتاج خريجين للمدرسة العمومية لهم ما يكفي من الكفاءة للمساهمة في تنمية الاقتصاد الوطني والحد من المديونية الخارجية - على المستوى التدبيري والتنظيمي: سيناريو الانتقال من نظام المؤسسة العمومية إلى نظام المقاولة العمومية غير مطروح بإلحاحية عند تحرير المرافق العمومية للتكوين والتربية الوطنية لأن الفصل بين التربية والتكوين كسوق و كتنشئة اجتماعية يظل قائما لاعتبارات ترتبط بدور الدولة والتي تبقى خارج أي إطار تنافسي. لكن إذا ارتأت الدولة ركوب هذا السيناريو بتحويل أكاديمية التكوين إلى مقاولة عمومية لتثبيت القيم المهنية والاحترافية في أداء المهام فلا شيء يمنعها من ذلك شريطة استبعاد هذه المقاولة من نظام البورصة ومن مختلف مظاهر التسليع الشامل للخدمة العمومية….يتبع
* باحث في قضايا تحرير المرافق العمومية