تدوينتي السابقة حول ضعف شعراء الملحون المعاصرين ، وقحط زمننا من رواد كبار على نحو ما عهدناه في وقت الصَّبَا والرْخَا والعطاء أثارت استياء بعض المحسوبين على أهل الملحون ، وهذا شيء عادي ومهم ، وأحسبه أمرا إيجابيا وسببا للحركة والكتابة والمشاركة بالتعليق والشرح والمدافعة على أقل تقدير ، غير أن المتكلمين كانوا أصنافا ، فمنهم القليل الذي تكلم بغيرة وحكمة ، ومنهم الكثير الذي سُخِّرَ وأُمِرَ بالكلام ، ومنهم النرجسي الذي جعل من ذاته محكا لا يجب للمعضلة أن تناله ، فإما أن تشهد له بالشاعرية ، وإما أن تصبح خصما وعدوا ، ومنهم……. ومنهم……
وما هكذا ينبغي التفكير ، ولا التعليق ، لأن من يملك ناصية الشعر بشقيها الفطري والمكتسب ، أي الموهبة والعلم لا يجب أن يشك في نفسه ، أو يكون مثل الغصن الفارغ من الثمار ، يخاف من كل ريح مقبلة عليه .
وأنا أتأسف كثيرا للتفاهة المتحكمة في بعض النفوس ، ولهشاشة رؤيتها لميدان الملحون ، وتأثرها السلبي والمتسرع ، وللدفاع عن الانحطاط والتعويق ، وللحديث بلسان أناس يريدون بشتى طرق التدليس الانتماءَ إلى الحضيرة العزيزة الجميلة ، حضيرة الملحون .
من عادتي أنني لا أدخل في لجاج مصطنع ورخيص مع أي أحد ممن أعتبر ، وممن لا أعتبر أصلا ، فيكفي التذكير بأن الزوبعة المثارة تدل على أن المقول أصاب أهدافه ، وتمكن من تعرية الهياكل المزورة في مجال الملحون ، ثم الأخطر أنه كشف شك أولائك المدعين في أنفسهم ، وفي إبداعهم المزعوم ، وهذا يدل على الإحساس بالفشل ، وعدم القدرة على التفكير الهادئ ، ومقارعة الحجة بالحجة لأنهم ألفوا العمل داخل جماعات الضغط والأنصار .
ملاحظة أخرى ومهمة حضرتني وهذا أوان الإفصاح عنها وهي أن عناصر الجماعة يكتفون بالنشر على صفحاتهم الشخصية ، وعلى صدر منتدياتهم الدعائية ، لم أر أحدا منهم على ما في علمي نشر في موقع ثقافي محايد ، أو في ملحق إبداعي للجرائد الوطنية ، أو في مجلة محكمة تهتم بالملحون ، أو في مؤلف جماعي يستند للقيم العلمية ، وتشرف عليه لجنة من المختصين المشهود لهم بالكفاءة والاتزان ، وعلى الجانب الآخر بحثت كثيرا عن دراسات وازنة أنجزت على خربشات المدعين كما تنجز على آثار الأجداد ، فلم أجدها ، وأغلب التهنيئات والتبريكات تأتي من بعضهم البعض لدوافع وأغراض الله وحده المطلع عليها ، والعليم بخباياها ، فأين هو الإبداع إذا لم يمر من كل القنوات المذكورة ، ويتعرض للتقليب والتمحيص ، ويُشهَد له من طرف مختلف القراء والأقلام ؟!.
أكرر للمرة المليون أننا نعيش في زمن قحط مٌطبِق وعام عَمَّ جميع أرجاء قصيدة الملحون ، وهو حكم مشاهد ومأخوذ مما يجري ويُنشر في الساحة الملحونية ، وبالطبع ستكون هناك استثناءات ولكنها لا تستمر في الصعود إلى الأعلى ، أو تحاصر من طرف جماعات الضغط المنتشرة في زمننا بدل جماعات الإبداع والإنصاف ، أو تصيبها العدوى فتسقط في خانة التكرار والضعف والانحسار في مواضيع معينة ، أو في قوالب محدودة وجامدة .
وحتى أبقى مخلصا لروح البحث وضوابط المعرفة ، مبتعدا عن الشخصنة المريضة والمهووسة بنزعة الأنا المشاغبة ، وتسلق جدران الألقاب سأسوق بعض المعايير العلمية الأولية والكلية ، يجب في نظري ومن باب أضعف المطلوب أن تتوفر في كل شخص يريد أن يتحلى بلقب شاعر في مجال الملحون ، وهي معايير مستوحاة من شعر الملحون ، ومستخرجة من مكنون شعرائه الأفذاذ ، وسأختصرها اختصارا في أربعة معايير ، وأتكلم عليها باقتضاب لأعين من يود الفهم والاستيعاب ، ولأقدمها بين يدي كل من يدعي الشعر ليحاكم نفسه وشعره بنفسه ، وسأجعلها حجة فيما بيني وبين من يطلب الدليل العلمي الأولي المنبثق من معطيات الملحون العامة فقط ، وسأرتبها ترتيبا بسيطا كما يلي :
1 – معيار التراكم : وهو معيار مهم ، سمي في أدبيات النقد العربي القديم بمعيار الكَمِّ ، ومعناه أن يكون للشاعر متن كبير ومتنوع ، مساير لمختلف مراحله العمرية ، ومتطرق لكل أبواب ومواضيع الملحون بوتيرة فنية متصاعدة ومتطورة دوما كما نجد ذلك مجسدا عند العمالقة من الأجداد ، وله مصداقية قوية في أحجام الدواوين الضخمة التي صدرت عن أكاديمية المملكة المغربية ، وفي المخطوطات والمطبوعات والدواوين الشخصية الصادرة لحد الآن ، فأين نحن اليوم من تلك الأحجام ، ومن ذلك التراكم مقارنة بمن يكتب خربشات على وسائل التواصل ، أو ينشر بعض الوريقات من القطع الصغير ، فاقدة للتوازن والتلاحم الفكري ما بين البداية والوسط والنهاية ، وكلها أوحال وهفوات ويريد أن يتسمى شاعرا…..
إنه العجب ؟! .
2 – معيار المقابلات والمقارنات والمقاربات : بالله عليكم بمن سأقابل أو أقارن مَن يدعي شعر الملحون في زمننا ، لم أستطع لحد الآن أن أحَصِّل على هذه المزية لدى المعاصرين ، وبالمناسبة أريد من يشير علي بمثال واضح يستجيب للشروط العلمية ، وسأكون له من الشاكرين ، وأعده بتغيير رأيي ، والإعلان عن الفارس الأمجد الذي لم أنتبه إليه .
والأمر بهذا الشكل يستدعي تحديد المطلوب بدقة عالية وخالية من المحاباة والعواطف ، فمن باب الإخبار أصرح بأني سعدت مؤخرا أيما سعادة عندما قرأت قصائد الحجام عند الشاعرين الكبيرين : الغرابلي والدمناتي ، ووجدت ما استرعى انتباهي على كثير من المستويات سلبا وإيجابا ، ومثل هذا يقال ويصح في حق كل الشعراء القدامى ، وفي مختلف المواضيع المطروقة في أشعارهم .
المقابلات والمقارنات والمقاربات هي فسحة الإبداع الأصيل ، تطلعك على ذخائره ، وتفتح عينيك على المدى الفني والفكري الذي وصل إليه مقارنة بالمنجز ، كما يزودك بطفرات المستقبل الممكنة والموعودة بعد كل عملية إبداعية ، ويفتح أمامك أبواب الجديد وحساسيات العصر المتنوعة الذي ينتمي إليه ، ولِمَ لاَ فقد تعثر فيه على روح عالية تنبئك بالتوتر ، والرغبة في التجاوز ، والإشارة إلى الهفوات ، والرغبة في الاجتهاد ، فأين اختفى كل هذا من خربشات المعاصرين المتشابهة والمملة ؟ وهل تحولوا إلى هياكل جامدة بلا سند ولا جذور ولا هُوية ولا صفة ولا مشروعية ؟! .
3 – معيار التقييمات الفنية والفكرية : هنا يظهر القحط بكل تلاوينه وأوصافه ومضامينه ، وبقدر ما تتمتع وتنبهر وتُجذَب عندما تطالع ما كتبه الأجداد بقدر ما تنفر ، وتتقزز ، وينغلق الأفق في وجهك وأنت في بداية قراءتك للخربشات المعاصرة ، ويشهد الله أنني حاولت كثيرا وبحسن نية كبيرة ، فكانت النتيجة هي خلو معظم الخربشات المعاصرة من الأفكار الصافية الصائبة المتناسقة فيما بين أقسامها ، وفيما يجاورها ، وافتقارُها للأساليب الفنية والصور الجميلة المرجوة ، وبالتالي سينتهي بك المطاف إلى اليأس والقحط والضعف متجليا بجميع أشكاله ومشاهده ، هذا إن اقتصرتَ على الاستنتاجات الممكنة من داخل ما يكتب وينشر في الوقت الحاضر ، أما إن أردت استخدام معيار المقابلات والمقارنات العريضة بين الجيل الحالي والأجيال السابقة فلن تجد أمامك إلا الصحاري الشاسعة العامرة بالعواصف الهوجاء ، الدالة على الجفاف والقحط الجاثم على الأجواء .
4 – معيار الهُوية الإبداعية : أقصد ذلك الوصف الذي يغلب على شعر الشاعر ، ويُعرف به في الوسط ، ويصبح بمثابة الهُوية الإبداعية الملاصقة لذكره وحضوره ، والدالة على وجوده الفني والفكري في ساحة الملحون ، وإذا كان هذا ممكنا وسهل الملامسة والمطالعة لدى الأجداد فإنه من قبيل سابع المستحيلات عند أصحاب الخربشات المعاصرة التي تُوغِل في التقليد والاِتِّباع والتكرار .
سُقتُ هذا المعيار وإن كنت أعلم أن الكثير من المدعين لن يفهموه ، وليس في متناولهم وإن طال بهم الزمن لأؤكد لأهل العلم أن الإبداع الحقيقي عموما يجب أن تتحكم فيه خاصية التفرد من بداياته الأولى ، أي انطلاقا من طور تقليد الكبار ، وإلا سيتحول إلى ادعاء ، وتكرار ممل ، وبلا توجه فكري وفني يشفع له بالحياة والدوام كما نرى عند المدعين في وقتنا للأسف الشديد .
هاته هي حجتي العلمية على كل مُدَّعٍ مُنتحِل لصفة شاعر ، وأؤكد فهي ليست لي ، وليست من اختراعي ، وإنما هي من أبجديات التقييم العلمى لأي منتوج إبداعي بصفة عامة ، مستخلصة مما جرت عليه العادة الحميدة في شعر الملحون ، فليريني الكُبَراءَ والزعماء والصُّغراء ماذا تحقق من تلك المعايير مفردة أو مجتمعة في خربشاتهم الماضية والحالية ، والباب مفتوح في وجه المستقبل كذلك إن بقي السير هو السير ، ورحم الله المتنبي حين قال في شطر بليغ من أشعاره : ( أكُلُّ فَصيحٍ قال شعرا مُتَيَّمُ ) .
وللموضوع ذيول قديمة وجديدة سأتولى نشر محتوياتها بالتتابع في الأيام المقبلة إن شاء الله .