(كش بريس/خاص) ـ في إطار الشراكة التي تجمع بين كلية اللغة العربية ومؤسسة كشبريس الإعلامية، التأمت يوم الخميس 9 فبراير الجاري، برحاب كلية اللغة العربية مدرج العلامة محمد الشرقاوي إقبال، ندوة فكرية تربوية في موضوع “صعوبات التحصيل الدراسي وأساليب الدعم البيداغوجي”، بالإضافة إلى حفل توقيع كتاب بحثي ثمين “سارليكسيا: بوح شفيف” للكاتبة والشاعرة المغربية فوزية رفيق الحيضوري.
وافتتحت كلمات الملتقى، من قبل عميد كلية اللغة العربية الدكتور احمد قادم ورئيس المؤسسة الإعلامية كشبريس الدكتور مصطفى غلمان، ومدير الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين بمراكش آسفي الأستاذ مولاي احمد الكريمي، أضاءت جوانب هامة من إشكالية بيداغوجية أساسية، ترتبط بصعوبات التحصيل الدراسي. واتفق المتدخلون في كلماتهم، على أهمية عرض تجارب الاستماع في المدارس، وأدوارها في بناء الشخصية المتعلمة، مؤكدين انتصار الحوار مع المتمدرسين المتعثرين، وإدماجهم في المنظومة التربوية بشكل يضمن سلاسة العمل الميداني، بمقاربة تربوية فاعلة.
وفي أولى جلسات الملتقى التي قامت بإدارتها الدكتور فاطمة حسيني أستاذة التعليم العالي بالرباط، كشف الكاتب والباحث في التربية والتكوين الأستاذ عبد الرحيم الضاقية في مقاربته النقدية “من الإنصات إلى الحمق، إلى حمق الإنصات”، قراءة في كتاب سارليسكيا بوح شفيف، للكاتبة والباحثة فوزية رفيق الحيضوري، عن تهيب كبير، نظرا لزخمه من حيث حضور ظواهر تربوية ومجتمعية ونفسية وعاطفية .. كثيرة لا يكمن الإحاطة بها من إطلالة تخصص واحد بل تحتاج إلى قراءة متعددة ومنفتحة على مشارب مختلفة .
وحاولت القراءة الدخول إلى عالم هذا المؤلف من قراءة عكسية /عاكسة من خلال عدة مداخل، من بينها وضعية المؤلفة وهي في نفس سن التلميذات التي تنصت إليهن وهي أستاذة حيث كانت في هذا السن تنصت للمرضى النفسانيين في مستشفى الرازي بسلا ، ومن هنا سوف تصاب بلوثة الإنصات إلى عمق التجربة الإنسانية.
وأبرز ذات المتحدث، في نفس السياق، الانتقال من الإنصات للحمق البارحة إلى حمق الإنصات اليوم عبر مركز الاستماع الذي أسسته في مؤسستها التعليمية بمراكش، ثم الانتقال من معلمة مستشفى الرازي ، وهو طبيب فارسي عاش في القرن 3 هـ وهو أول من تحدث عن مرض الجسد ومرض النفس . إلى ثانوية للا عودة السعدية وهي في الأصل مسعودة الوزكيتية أم المنصور الذهبي التي كانت امرأة متمردة على التقاليد التي عرفها مجتمعها.
وقال الناقد الضاقية، أن الكاتبة تسرد حكايات حالات مررن معها في مركز الاستماع ، وفي نفس الوقت تتحدث من خلالهن عن هواجس ووضعيات ذاتية تفكر فيها أو تعيشها أي أن المرآة العاكسة تنشغل بالآخر لكنها تصور الذات في الآخرعبر الحديث من خلاله، مبرزا أن المؤلفة تشتغل بمنطق عكسي بين الفراغ والامتلاء ففي الوقت الذي تحاول إفراغ ذوات المستفيدات من المركز من مشاكلهن وأثقالهن ، تشعر هي بالامتلاء والمسؤولية مما يجعلها تزيد من إصرارها وصمتها الذي يعد شفاء للآخرين.
ومن وجهة نظر الباحث، يتابع الضاقية، فإن المحاولة تبقى إعادة قراءة للفضاء المدرسي بعين تغوص في ذات الأخر ( ص 17) من أجل اجتراح أساليب وطرق لمعالجة الوهن النفسي والوصول إلى النتائج التي أدت إلى خروج المستفيدات من عنق الزجاجة وعلاج أمراض الروح قبل أمراض الجسد .ولن يتم ذلك إلا بمأسسة التجربة واستمراريتها على مستوى جميع الإعداديات والثانويات على مستوى ربوع الوطن كي لا تبقى أمثال سارة وبهية وونزيهة … غارقات في بئر عميقة من الصمت .
أما الدكتور المصطفى عيشان، الأستاذ الباحث بجامعة القاضي عياض ورئيس الرابطة الجهوية لجمعيات أمهات وآباء وأولياء التلاميذ بجهة مراكش آسفي، فقدم مداخلة تحدث في محورها الأول عن نظرة عامة لمحتوى الكتاب وما تضمنه من مفاهيم ومصطلحات وذكر الفاعلين الذين كان لهم علاقة بتجربة مركز الاستماع والذي تحدثت عنه الكاتبة ضمن تجربتها بالثانوية التأهيلية العودة السعدية، إذ ركز على الهدف من تأليف الكتاب.
وذكر الباحث عيشان بالمصطلحات الواردة به، والأزمنة والأنشطة التي غطتها التجربة مع ذكر المظاهر المعاينة كالإقصاء الاجتماعي والعنف، والطلاق، واليتم، والفقر ، والتحرش، والتنمر، والتمرد… كما بين مسرح الأماكن التي جرت فيها التجربة سواء على المستوى الدولي أو الوطني أو المحلي.
وتماهيا مع الكاتبة لخص الدكتور عيشان في المحور الثاني في عناوين نماذج الحالات التي استفادت من مركز الاستماع، مما خول له وضع مشروع تربوي ضمن المحور الثالث أسماه قراءات مفيدة يهدف قراءة عمل أدبي لتحقيق الامتاع والتأثير، ينتظر منه نشر ما ورد بكتاب سارليكسيا لكل غاية مفيدة.
وحول تجربة “سارليكسيا بوح شفيف” قدمت الأستاذة ليلى بنسليمان رئيسة جمعية أصدقاء المدرسة العمومية وعضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين، إضاءة معرفية واعية بظروف واختيارات “سارليكسيا ..” مفهوميا وإبداعيا. وعرجت الخبيرة بنسليمان على قضية الوعي بالمشكلات المعقدة لصعوبات التعليم، مذكرة بشرطيات العمل الميداني التي أبرزتها المؤلفة في كتابها.
وأشارت بنسليمان إلى إضاءات الكتاب الفارقة، وسبل إعادة قراءتها من مجالات مختصة، داعية إلى إدارة القضية من زوايا التربية وبيداغوجيا التدريس، بالإضافة إلى ما يرافقها من أبعاد اجتماعية وإنسانية، كفيلة بضبط الأسئلة والبحث عن إجابات شافية عنها.
وفي الجلسة الثانية التي ترأسها الدكتور سعيد العوادي نائب عميد كلية اللغة العربية بمراكش، حول أعمال ومنجزات رائد علوم التربية الدكتور محمد الدريج، حاول الدكتور محمد الشرقي أستاذ التعليم العالي بمراكش، تقديم تقرير تركيبي حول إسهامات المفكر المغربي محمد الدريج أحدٍ أهرامات الفكر التربوي في بلادنا والذي تكونت على يديه ان بشكلٍ مباشر او غير مباشر اجيال من المدرسات والمدرسين.
وما يلفت الانتباه ونحن نتحدث عن الاستاذ الدريج، يضيف الشرقي، هو غزارة إنتاجه في هذا المجال وهذا يبين انه لم يكن فقط أستاذًا ينفذ منهاجا تعليميًا رسميا بل كإن أستاذا متبصرا وفاعلا يتأمل باستمرار تجربته وممارسته المهنية مبينًا امكاناتها نقط قوتها ونقط ضعفها.
وأكد الباحث الشرقي، أن الدريج ساهم في تقديم مجموعة من البيداغوجيات الحديثة للقارئ العربي بأسلوب بسيط وبطريقة تعليمية مثل بيداغوجيا الأهداف وبيداغوجيا الكفايات ولم يكتف بتقديم هذه البيداغوجيات بل درسها دراسة نقدية مبينا إيجابياتها وكذا حدودها ومن بين حدودها في نظره أنها اهملت العمل على بناء شخصية المتعلم ولم تأخذ بعين الاعتبار المعطى السوسيوثقافي وخصوصية المجتمع المغربي.
واعتبر المحاضر، أن كتابه المنهاج الجديد يعد وثيقة تاريخية تناولت بالتحليل والنقد اهم منعطفات النظام التعليمي في المغرب ويسجل في هذا الإطار ان جل الإصلاحات كانت متسرعة وهيمن عليها التخبط والارتجال. لذلك نجده مافتىء يدعو للقيام بانتفاضة تربوية وبربيع تربوي يساءل الواقع التربوي والتعليمي في بلادنا بنظرة الباحث المتمرس الذي ينزل الى الميدان ويجيد الانصات لكل مكونات المنظومة والفاعلين فيها.
وحول “مقاربة التدريس بالملكات عند محمد الدريج”، حاول الدكتور محمد فخر الدين، أستاذ التعليم العالي، ترنو تبيان مساهمة الدريج في الإصلاح البيداغوجي لنظام التعليم، وجعله قادرا على مواجهة مختلف الصعوبات والتحديات خاصة على المستوى المنهاجي – الديداكتيكي.
وقارب المتدخل، مسألة تعميم تعليم مندمج و أصيل عالي الجودة، و تبني مبادئ و مفاهيم تربوية تراثية، وكذا توظيف مفاهيم وأدوات تدريسية متجددة مما يشجع في المنظومة التربوية، التفاعل بين الموروث الثقافي والتطورات والكشوف التربوية المعاصرة، وذلك بالعمل على، دراسة الممارسات والتجارب التربوية في تراثنا و إغنائها وتوظيفها ،
دراسة التجارب التربوية العالمية وتقويمها والاستفادة منها، ومد الجسور التربوية-التعليمية بين هويتنا الثقافية والمنجزات العالمية المعاصرة، وترسيخ لدى المتعلم الهوية التراثية-الأصيلة التي ترفض الاغتراب والاستلاب وخلق الانسجام والتوازن بينها وبين الهوية المنفتحة التي تتميز بالحوار وبالتواصل المعرفي والانخراط في مسيرة الحضارة الكونية، والمساهمة في الانعتاق من النقل والتقليد ، وتفعيل شخصيتنا الأصيلة والمبدعة، سواء كأفراد أو جماعات والمساهمة بفعالية في تقويتها بالتربية البدنية والتربية الفكرية وبترسيخ الاتجاهات الايجابية المقبولة والقيم الأخلاقية وقيم المواطنة، والرقي بشخصيتنا وقدراتنا المبدعة ،من خلال هذا النموذج وغيره، وإصلاح شامل وعميق لوضعية البحث التربوي والعلمي في بلادنا (التطبيقي منه والأساسي) ، حيث تنشأ مبدئيا النماذج وتتبلور الحلول وتنضج النظريات.
وانبرت مداخلة الدكتور عبد العزيز لحويدق، أستاذ التعليم العالي، والموسومةب”عقلنة الفعل البيداغوجي وأنسنته “إلى النفاذ للخلفية الإبستيمية للمشروع البيداغوجي للدكتور محمد الدريج الذي شكل منعطفا هاما في تاريخ التفكير الديداكتيكي في المغرب، إذ نقله من مرحلة التركيز على المحتوى والذاكرة إلى مرحلة الوعي بالأهداف والمقاصد والقدرة على تنزيلها إجرائيا في الفصول الدراسية وفق عمليات عقلانية تخطيطا وإنجازا وتقويما بنوع من التكامل والانسجام.
وبالرغم مما لوحظ على بيداغوجيا الأهداف من ملاحظات تهم بالأساس الجوانب السلبية الحافة بها كالسطحية، والتفكيك المفرط، والتنميط، يضيف الدكتور لحويدق، فإن محمد الدريج كان فطنا إلى تلك المزالق لأن سفر الأسس النظرية من الحقل الأكاديمي الأصلي إلى الحقل التربوي يقتضي التكيف مع المجال الهدف الذي محوره الإنسان في أبعاد شخصيته المتعاضدة في جوانبها الحسية الحركية والعقلانية والوجداني.
ومن ثم، يؤكد الباحث المحاضر، فأي تجديد لاينبغي أن يحدث قطيعة مع السلف البيداغوجي وذلك عملا بمنطق الاتصال والانفصال. وقد بدا هذا واضحا في كل المحاولات التجديدية اللاحقة إذ لم تستطع الانفكاك من نموذج بيداغوجيا الأهداف، وذلك ليس نقيصة وإنما هو ترصيد لما هو ضروري، وتغدية واستدراك بغية التجويد وتشييدفلسفة إنسانية تعد المواطن للحياة بتعقيداتها وما تتطلبه من قدرة على الابتكار والإبداع وحل المشاكل الطارئة، لأن الزمن المدرسي محدود وزمن الحياة ممتد،ومن هنا وجب التسلح بالمعارف والمهارات والقدرات وبالمنهج النقدي المرن القادر على اجتراح الأجوبة المناسبة للوضعيات الجديدة.
وخلص لحويدق، قائلا :”والحق يقال أن إسهام الدكتور محمد الدريج لم يفقد راهنيته، بل يعد مقدمة ضرورية لكل تجديد، وذلك انسجاما مع قولة مأثورة لأمين الخولي:”التجديد هو قتل القديم بحثا”.
وعرف الملتقى، تدخل كل من الدكتور محمد الدريج والأستاذة فوزية رفيق الحيضوري، اللذان ينتجان على مدارة معرفية واحدة، آثارا جديرة بالمتابعة والنقد، واستخلاص العبر.
وأفرد الدكتور الدريج في كلمته العميقة، جانبا ملهما في تجربة التحسيس بأهمية إيجاد وسائل بيداغوجية بديلة لإنتاج محتوى مائز لبناء أساسات متينة لمحاربة أو الحد من تداعيات الصعوبات التعليمة. وأكد المكرم على ضرورة انتقال الإصلاح التعليمي من مجرد التنظير إلى الإحفاز الفاعل على تدبير إشكالية خطيرة على المدرسة ومستقبل أبنائنا.
في حين اعتبرت الكاتبة فوزية رفيق الحيضوري، في كلمتها بالمناسبة، أن تجربتها في مراكز الاستماع، هي حصيلة معرفة وأفق مفتوح على كل واجهات العمل البيداغوجي والتربوي. مبرزة أفق الاعتماد على المكتسبات، وتقييمها من أجل غد أفضل.
نشير في الأخير، إلى أن اللقاء شهد توقيع كتاب “سارليكسيا بوح شفيف” للكاتبة فوزية رفيق الحيضوري، وكتاب “هل انتهى عهد البيداغوجيا؟”، بحضور كثيف ووازن تشكل من عديد وجوه ثقافية وأكاديمية وإعلامية .