كل شخص عاقل وإنساني ونزيه يجب أن يسأل نفسه سؤالين: كيف وصلنا إلى هذه اللحظة؟ كيف سننهي دائرة العنف التي استمرت سنوات طويلة؟ وصلنا إلى هذه اللحظة بسبب وجود حركتين قوميتين تصادمتا في أرض إسرائيل.
في بداية الصهيونية ساد شعار “أرض بدون شعب لشعب بدون أرض”، الذي كان فُسر أن هذه البلاد فارغة. اليمين ينشر كذبة البلاد الفارغة حتى الآن. ولكن نظرة إلى الخرائط من القرن التاسع عشر ونتائج الإحصاءات السكانية العثمانية من العام 1897 و1905 ونتائج الإحصاءات السكانية لبريطانيا في 1922، تدل على أن البلاد كانت تضم مئات القرى العربية التي كان يعيش فيها نحو 700 ألف نسمة في بداية القرن العشرين.
نعم، عدد من المفكرين الصهاينة، من بينهم آحاد هعام، حذروا في نهاية القرن التاسع عشر من أن الصهيونية تريد تطبيق مشروعها في أرض مأهولة. وفي 1923 عبر زئيف جابوتنسكي عن ذلك بكلمات حادة وواضحة في مقاله العظيم “الحائط الحديدي”. في الوقت نفسه، طور الفلسطينيون سكان البلاد، قومية خاصة بهم في القرن العشرين.
وثمة نقطة فارقة مهمة في العلاقة بين الحركتين القوميتين، وهي نكبة 1948، التي أصبح فيها نحو 700 ألف فلسطيني لاجئين، وتم هدم 400 قرية فلسطينية. وهناك نقطة فارقة أخرى، وهي تولي الليكود للحكم في 1977. اتخذ الليكود قراراً تاريخياً بحسبه الهدف الأسمى للصهيونية ليس تحقيق السلام مع الشعب الفلسطيني، بل استمرار الاحتفاظ بـ “يهودا والسامرة” وترسيخ مشروع الاستيطان. مع مرور السنين، أصبحت المواجهة بين الحركتين القوميتين أكثر عنفاً.
وصل الفلسطينيون إلى ذروة العنف في عيد نزول التوراة. ووصلت إسرائيل إلى ذروة العنف في العملية التي تجري الآن في غزة. استمرار احتفاظ إسرائيل بـ “المناطق” [الضفة الغربية] تم تبريره بالحاجة الأمنية. ولكن إقامة مئات المستوطنات في “المناطق” يدل على أن إسرائيل لا تحتفظ بـ “المناطق” لأسباب أمنية، بل بسبب الطريقة التي تعرف فيها أهداف قوميتها. اضافة إلى ذلك، فإن الكثير من الخبراء الأمنيين، مثل إيهود باراك (“الفرق بين اليسار واليمين كالفرق بين الذين يتبنون نظرية التطور ومن ينفونها”، “هآرتس”، 11/5/2017)، وأعضاء حركة “قادة من أجل أمن إسرائيل”، يقولون بأن الأمن القومي الإسرائيلي لن يتم المساس به إذا توصلت إسرائيل إلى اتفاق سلام مع الفلسطينيين، مع إخلاء معظم “المناطق”. وهناك عدد غير قليل من الذين يقولون إن الاحتفاظ بـ “المناطق” يزيد من سوء الوضع الأمني في إسرائيل. هذا الادعاء عاد وطرح مؤخراً، حيث قيل إنه لا يوجد ما يكفي من الجنود في غلاف غزة، لأن الجيش كان مطلوباً منه حماية المستوطنين في “المناطق”.
السؤال الثاني هو كيف سننهي دائرة الدماء؟ الإجابة أن الكثير يتعلق بالطريقة التي تحدد فيها إسرائيل أهدافها القومية. إذا كان تحقيق السلام مع الفلسطينيين سيصبح هو الهدف القومي الأسمى، فمن غير المستبعد أن يكون بالإمكان التوصل معهم إلى اتفاق يمكّن أيضاً من التطبيع والحفاظ على الأمن.
من الواضح أن سلوك حماس القاتل في غلاف غزة سيولد ادعاءات على صيغة “هذا هو طبع العرب الحقيقي، ولا يمكن الثقة بهم والتوصل معهم إلى أي اتفاق”. ولكن في المقابل، يجب التذكر بأن إسرائيل توصلت في 1979 إلى اتفاق سلام مع مصر، بعد أن تسببت لها بكارثة وطنية فظيعة. وهو ما زال قائماً منذ 44 سنة؛ هناك تعاون أمني وثيق بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية منذ عقدين استمراراً لاتفاق أوسلو الذي تم التوقيع عليه في 1993؛ كما توصلت إسرائيل إلى سلام مع الأردن؛ ومع دول عربية أخرى في إطار “اتفاقات إبراهيم”؛ وهناك علاقات سلام وتعاون بين المواطنين اليهود والمواطنين العرب في الدولة.
إنهاء دائرة الدماء يقتضي أيضاً الاعتراف بوجود القومية الفلسطينية والحق في تقرير المصير.
مثلما قيل كثيراً في الفترة الأخيرة، لأنها أرادت تجاوز الحاجة إلى التوصل إلى اتفاق سياسي مع السلطة الفلسطينية، فإسرائيل نفسها هي التي ساهمت وبشكل كبير في بناء حماس كمنظمة قوية منافسة للسلطة الفلسطينية. نأمل أن تستخلص إسرائيل الدرس من الأحداث الأخيرة، وأنه لا مناص من التفاوض بشكل مباشر مع السلطة الفلسطينية وعدم محاولة خلق منافسين لها (هذه استراتيجية قديمة لإسرائيل. مثل محاولة تجاوز م.ت.ف عن طريق إقامة “روابط القرى” في 1977).
يجب أن تدرك إسرائيل أيضاً بأن استمرار النزاع الدموي هو التهديد الرئيسي للديمقراطية الليبرالية. وإذا استمر النزاع فسيؤدي إلى وقوف جهات متطرفة على رأس الدولة، ستقود أولاً إلى تدمير النظام الديمقراطي الليبرالي، ثم تدمير الدولة نفسها. والاحتلال هو التهديد الرئيسي لليبرالية؛ لأن المنظمات التي تعارض الاحتلال تعبر عن معارضته، والدولة ترد بتبييض حقوقها الليبرالية، مثل حرية إقامة جمعيات وحرية التعبير. إضافة إلى ذلك، هناك ادعاء يقول إن جزءاً كبيراً من الدافعية للانقلاب النظامي في السنة الأخيرة نابع من رغبة في تخليص الاحتلال من الرقابة القانونية للمحكمة العليا.
إن استمرار النزاع سيؤدي آجلاً أم عاجلاً إلى محاولة تهجير عرب إسرائيل. وحسب رأيي، لن تنجح هذه المحاولة، لكنها ستحول إسرائيل إلى الدولة الأكثر إجراماً في العالم، وستؤدي إلى عنف واسع وطويل المدى بين إسرائيل والعالم الإسلامي قاطبة. وسيؤدي استمرار النزاع أيضاً إلى مواجهات عنيفة بين اليهود والعرب داخل إسرائيل.
بشكل عام، يجب أن نسأل أنفسنا، في أي دولة نريد العيش بعد 20 أو 30 سنة؟ في دولة ما زالت تستند إلى القوة العسكرية أم في دولة تطبق التعايش مع القومية الفلسطينية وتقيم علاقات متشعبة مع دول الشرق الأوسط؟ ففي نهاية المطاف، سنتوصل إلى السلام مع الفلسطينيين. وإذا كان الأمر هكذا، فلماذا لا نبدأ في هذه الجهود الآن؟
ميني ماوتنر
هآرتس 26/10/2023 (عن القدس العربي)