من عبد الواحد الطالبي – وارسو عاصمة بولونيا (كش بريس)
اندمج المجتمع البولندي سريعا في الحياة الليبرالية بعد عقود من النظام الشيوعي المتحكم في جميع مفاصل الاقتصاد والسياسة والمجتمع، والتحق بالرأسمالية وقتا قصيرا بعد انتفاضته الكبرى التي أعقبت الكلاسنوست وسقوط جدار برلين وانهيار المعسكر الاشتراكي، ثم تطور وأدرك الدول المتقدمة في أوربا الغربية.
عقود قليلة كانت كافية لعاصمة بولندا حتى تنزع مِنْ عليها معطف ستالين وتنفُضَ عنها غبار البولشفية وتتزين بلباسٍ ضاهتْ به كبرى عواصم العالم، بل تفوقت على بعضها بانضباط كبير موروث عن العهود البائدة للحكم الديكتاتوري في أوروبا الشرقية.
ويتجلى هذا الانضباط في سيادة القانون وفي العمران والتصميم الحضري وفي الالتزام الأخلاقي بقيم المروءة والصدق والنزاهة والأمانة في المعاملات وشتى نواحي الحياة الاجتماعية.
فوارسو مع النازية والفاشية مثل روما التي أحرقها نيرون، انبعثت كالفينيق من رماد، فشيدت بنيانها على طراز معماري حديث بعمارات شاهقة وتصاميم فريدة أثثت بها شوارع فسيحة بإطلالات خضراء وزينتها بأنوار كاشفة لصدق الإرادات لإقامة الدولة الديمقراطية وعنوانها حاضرة العاصمة.
الديمقراطية هَهُنا لها تجليات في الحياة اليومية للناس، وليست شعارا أجوف أو مفهوما غير قابل ان يكون ممارسة واقعية. فالإشارة الضوئية للمرور في شوارع وارسو لها سلطة، ولممرات الراجلين سلطة ولمعابر الدراجات سلطة ولمساحة كل شخص عابر ماشيا أو ممتطيا مركبة سلطة، وللسلطة مبتدا ومنتهى ولها حدود.
لا يحتاج الناس في وارسو إلى شرطي ينظم المرور، ولا يحتاجون إلى منبهات السيارات بالزعيق في الشارع العام لإفساح الطريق من جوقات الفضول والفوضى، ولا حاجة للتحوط لدى المارة عن ركام الأزبال أو الحفر وبعض غائط في غير محله، ولا شاب أو رجل يتحرش بامرأة ولا فاتنة تعرض بالهمزات والغمزات جسدها للذي يشتهي ويشتري أو أخرى تلاحقها العيون الفاجرة والألسنة المدلوقة فلا يخلصها من أنياب الوحوش سوى الأمن. كل بضاعة لها سوقها.
تربى الناس أن يكونوا ديموقراطيين وصارت الديموقراطية تسري في دمائهم مسرى الدم في العروق، لكنهم ضحوا من أجلها وقدموا من لحومهم ودمائهم على مقاصل السحل والقتل وفي غيابات السجون والمعتقلات، وتحملوا الضرب والقمع في المدارس والجامعات، وعانوا من الخوف والرهبة عندما كان البوليس السري والكاجيبي ظلا لكل شخص وطَيْفا ينام معه أيام الديكتاتورية التي لا يتمنى اي بولندي عودة ساعة من زمانها المقيت، ولكن كان للديكتاتورية مع كل سيئاتها حسنةُ التربية على الواجب والالتزام في انضباط وصقل السلوك على الصراط القويم بلا أَمْتٍ ولا اعوجاج.
وحتى في الأسواق التجارية تخلصت وارسو في كثير من المتاجر من الحيسوبيين الذين لا غنى عنهم مهما تكن المراقبة الإلكترونية دون رقابة الضمير ومن غير صدق وأمانة، فهي المتاجر التي يبتاع منها الزبائن حاجياتهم من كل بضاعة معروضة ويحاسبون بذواتهم لا رقيب عليهم سوى ضمائرهم فيؤدون ما عليهم من واجبات بالبطائق البنكية أو بالتطبيقات المصرفية ولا أحد يدقق الحساب والأغراض مما ابتاعوا.
وكذلك السيارات والدراجات والعجلات في الشارع، يكفي المُؤَجِّرَ فتحها بالتطبيق من خلال الماسح الضوئي في هاتفه النقال لرمز الاستجابة السريعة المثبت في المقود أو على زجاج السيارة حتى يتَيَسَّر استعمالها بوجيبة مدروسةٌ بعنايةٍ تكلفتُها للدقيقة أو للكيلومتر، وإذا ما قُضيت الحاجة بالاستعمال للنقل يُحتسَب الوقت أو المسافة ثم يتم اقتطاع المبلغ من حساب المؤَجِّر الذي يركن الدراجة او العجلة أو السيارة في المراكن المرخصة ولا حاجة للرقيب غير الضمير والصدق والأمانة.
حادَثْتُ صاحبة شركة لتأجير السيارات في بلدي بمدينة الدار البيضاء أحُثُّها على استيحاء هذا النموذج بتطبيق يسهل الخدمة ويريح الزبون ويحسن المردودية الاستثمارية لشركتها، فأكدت أنه مع كل الضمانات التي تفرضها شركات تأجير السيارات القانونية والمبتكَرة فإن الزبائن فيهم من يستبدل العجلات الجديدة لسيارات التأجير بغيرها قديمة، وكذا قطع الغيار إضافة إلى الخدوش وإلى ما يضطر اما الزبون او وكالات تأجير السيارات إلى تدخل الأمن وفتح الملفات القضائية امام العدالة.
وأما وأن وارسو بكل المعاينات التي لا وجود في مشاهدها للأمن من أجل الفصل في ما لا تترك التربية ولا يدع الضمير ولا تُخَلِّف الأمانة والصدق في كل تصرفات السلوك والمعاملة أثرا يكون مدعاة لنزاع او خصام أو ضرر بالسرقة أو الاختلاس أو الاحتيال والنصب وغيره فإنما ذلك من تزكية الدكتاتورية لنفوس البولنديين وتهذيب أخلاقهم بالانضباط والالتزام وذاك في اعتقادي ما أهَّلَ الديمقراطية لتنجح في بلادهم وجعل عاصمتها مرآة صافية تعكس هذا النجاح.
فهل الديكتاتورية ضرورية للعبور نحو الديمقراطية وتأهيل الشعب ليكون ديموقراطيا؟
ليس مهما الجواب قدر أهمية طرح السؤال.