‏آخر المستجداتلحظة تفكير

أحـمـد الـشـهـاوي: التكفير بالسماع

قد تحذف قصيدةً من ديوان ، فتصير الأهم والأبرز فى عصر شاعرها والعصور التالية

وقد تضايق شاعراً طليعيا مجرباً مجدداً بمنع نشر كتبه فيصير الأكثر شهرة وعمقاً فى بلاده ، بعدما يكون قد فضل الانتحار على العيش محاصراً ومحروما من حرية التعبير والكتابة والنشر .

فى عام 1931 ميلادية صودر ديوان ” اهدم الرأسمالية لاتتباك عليها ” للشاعر المجري أتيلا يوجف ( 1905 – 1937 ) بذريعة التحريض . وقبل هذا الديوان طوردت قصيدته ” بقلب نقي ” التي نشرت عام 1925 ميلادية ، وكانت سبباً فى طرده من الجامعة ، فصارت الأشهر في المجر التى باتت تحتفل بعيد ميلاده سنوياً وعرف الجميع أن الحادي عشر من أبريل هو يوم الشعر المجري ، اليوم الذي ولد فيه أتيلا يوجف .

ولم يتحمل عقل الشاعر الكبير الموهبة مايمارس ضده من السلطات فجن ، ومات منتحراً وهو في الثانية والثلاثين من عمره تاركا اسماً وشعراً كبيرين.

هكذا تفعل الرقابة والمصادرة ومنع وقمع الحريات ، إذ ربما تقتل أصحاب الإبداع ، لكن إنتاجهم يظل سيفا مشهراً في وجوه الجلادين وضيقي الأفق والظلاميين من أصحاب الفكر المتطرف ، وكارهي الحداثة والتجديد والبحث والمساءلة ، فلا شئ مقدساً في العلم والإبداع ، يشهد على رجعيتهم وتخلفهم ، ولاينسى لهم التاريخ كم هم معادون للفكر وحرية الرأي ، فما أسهل عليهم اتهام من ليس موافقاً لأفكارهم بأنه كافر وملحد وزنديق وخارج على القيم والأعراف والتقاليد والدين ، وضد الله ورسوله وغير مؤمن بالرسالات السماوية . إنها تهم جاهزة تشهر فى وجه أصحاب الرأي الآخر .

وفى مصر – على سبيل المثال – أسماء لشيوخ ينالون شهرتهم ومكانتهم في الأوساط الدينية من رفضهم للكتب أو الأفلام أو المسرحيات أو الأغنيات أو أي أعمال إبداعية لاتتواءم مع ميولهم ، بل المثير للدهشة ، أن أحكاما تصدر بالمصادرة والمنع والاتهامات الظالمة دون قراءة الكتاب أو مشاهدة العمل ، وهو ما أسميه ” التفكير بالسماع “.

إننا نعيش سباقا فى معاداة الإبداع ، فلا يمر أسبوع دونما أن يوافق مجمع البحوث الإسلامية التابع لمشيخة الأزهر على مصادرة كتاب ، أو بضعة كتب مرة واحدة فى جلسة واحدة . وليس كل كتاب يمنعونه يعلم به الإعلام ، بل أعرف أن صاحب الكتاب الممنوع – مثلاً – لا يستطيع أن يأخذ التقرير الذى صدر ضد كتابه .

وهذا ما حدث مع كتابي ” الوصايا فى عشق النساء ” بجزئيه الأول2003 والثاني2006، فاللجنة التى أصدرت فتواها في وفي كتابي لم يقرأ منها سوى واحد لم يكمل الكتاب ، كما أنني لم أحصل – حتى الآن – على صورة من ذلك التقرير بصفة رسمية ، إنما للأسف أخذته من أحد المحررين الدينيين ، يعني أن المبدع يكفر دون قراءة ودون أن يعرف لماذا ؟ .

فكيف بالحظر والمنع والمصادرة والطمس والحذف والفسخ سيتقدم العرب .

إن أشكال الرقابة في الوطن العربي عديدة ومتنوعة ، تختلف من دولة إلى أخرى ، فبدل أن نلاحق الأمية والتخلف ، نقوم بملاحقة الإبداع حفاظاً على الأمة ، وخوفاً على عقول أبنائها ، من قصيدة أو رواية أو قصة قصيرة يمكن أن تحدث انقلاباً أو تقيم مظاهرة ، أو تسقط حاكماً أو وزيراً .

ما يحدث ليس حدثاً مفرداً لا يتكرر ، لكنه حملة منظمة ضارية تقدم العرب على أنهم متخلفون ، قامعون ، ضد الحريات ، بل هم يتراجعون عما كان أسلافهم عليه قبل ما يزيد على ألف وأربعمائة سنة .

فما أصعب على النفس أن تغتال حرية كاتب ، وتقصف قلمه ، وتمنعه من النشر ، فى زمن صار كل شئ فيه مفتوحاً متاحاً .

فحرية الاختلاف مطلوبة بل ضرورية لازدهار الفكر ، فليس هناك معيار واحد للحكم على مبدع أو عمل فني ، إذ تتجاور الرؤى والجماليات ، ولا يمكن تسييد شكل أو رأي واحد باعتباره الصواب ، وما دونه خطأ وجريمة ، فأي دستور يكفل حرية التعبير والرأي والبحث العلمي ، خذ مثلا المادة التاسعة والأربعين من الدستور المصري : (( تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمي والإبداع الأدبي والفني والثقافي ، وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لذلك )) .

وللأسف لا نرى أحداً يحمي الدستور ، أو يدافع عن المبدعين خصوصاً الجهات المنوط بها ذلك ، وإلا لما تكاثرت حالات القمع والمصادرة وكبت الحريات ، ولا يعقل أن جهات في الدولة المصرية تتعاضد مع قوى ظلامية متطرفة لتقييد الحريات وقلتها .

أعرف أن هناك كثيرين ضحايا لمحاكم التفتيش العربية أشهرهم : طه حسين ، نجيب محفوظ ، لويس عوض ، نصر حامد أبو زيد ، علي عبد الرازق و…

فهل لم يئن الأوان لنغلق القائمة ، بدلاً عن الفضيحة التي نمارسها فى حق أنفسنا بتكرار المصادرات ، وهي فضيحة عالمية لم تعد محلية أو عربية فقط ، لأنها قوت للآخر الغربى ، يتغذى عليها مردداً :

” ( انظر كم هؤلاء العرب متخلفون ) ” . إن ما ننفقه لتجميل صورة العرب ، يضيع في مصادرة كتاب ، لأن خبر المصادرة ومتابعته ينشر في مئات الصحف فى العالم .

ولم تعد المصادرة – سراً – أمراً يفلح ، لأن كل شئ يعرف في الحين نفسه .

وقد أرسلت إلي مؤسسة نرويجية مدنية تدافع عن حرية التعبير اسمها

” beacon of freedom of expression “

قرصاً مدمجا ( cd ) يحتوى المصادرات التى وقعت فى مصر خلال السنوات الثلاثة الاخيرة .

إن المصادرة جريمة ينبغي أن يعاقب من قام أو اضطلع بها ، بدلا عن معاقبة صاحب العمل المصادر .

فلا مصادرات تقع إلا في ظل حكومات قامعة فاشية ، وفي ظل سيطرة وهيمنة جماعات دينية متطرفة ، لها قوتها وحكمها ، وليست محاكم التفتيش فى إيطاليا وإسبانيا بعيدة عن الأذهان .

وبدلا عن أن تكون المصادرة استثناء ، صارت هي الأساس ، مع أن الإباحة هي الأصل .

فالشعر ليس سراً عسكريا يمنع ، والرواية ليست مخططا حربيا سيعرض البلاد إلى كارثة تحدق به ، حتى نخشى من الحروف التى تخرج من الصفحات متصورين أنها قاصفات سترجم ألباب من قرأوها ، ولذا ينبغي قصفها من المهد .

لا أحد يستطيع أن يصادر أحدا أو يلغيه ، لأن في الإلغاء حياة ، وفي المصادرة بقاء .

والكتاب المصادر يسافر بعيداً عن وطنه الذى لم يستطع أن يحيا فيه بفعل عوامل الموت ، لذا ينبغي أن نتخلى عن فقه المصادرة ، مغادرين أرض ثقافة الإلغاء ، لأن الثقافة العربية والإسلامية لم تزدهر إلا بتنوعها وتعددها ، إذ لم تعرف الخوف ولا التردد ولا التناقض ، في حين نجد أن المؤسسة الدينية صارت المصادرة أسلوبا ونهجاً لها فى التعامل مع المجددين أو المخالفين لآراء وأفكار ومعتقدات من يتعاملون معها ، أوهم جزء منها وهؤلاء إذا ما أوصوا بمصادرة كتاب فتحوا صنبور الصيغ الجاهزة لوصم الكتاب وصاحبه من مثل : ” الكتاب يمثل خطراً على الإسلام ” ، ” نوصي بعدم تداوله حفاظاً على العقيدة الإسلامية الصحيحة ” وغيرها من الصيغ ، وكان من الأجدر والأولى بهم أن يردوا على الفكر والإبداع بفكر وإبداع مماثلين.

‏مقالات ذات صلة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


Back to top button