العشقُ حكمةٌ إلهاميةٌ محمولةٌ على رتبة السُّمو والمثالية ، وعبودية طائعة مُختارة ، وعفوية وخضوع وتضرُّع للمرأة ، وهذا موجودٌ عند العرب منذ الجاهلية ، كما أنه موجودٌ في الحضارات القديمة التي كانت المرأة فيها إلهةً مقدَّسة تُعبد ؛ لأنَّ النفس تكون مملوكةً بوحي وسلطانٍ من الحُب الذي حُكْمُه نافذٌ ، وأمرُه لا يعرف المخالفة ، ويرى العاشق أن المرأة التي يحب مُطْلقة الكمال ، وفريدة بين المخلوقات ، وتامَّة بين بنات جنسها من النساء ، وأنها فوقهن بما تمتلك من حُسنٍ وجمالٍ نادريْن ، إذ يراها أحسن النساء وأفتنهن .
وهو تجربةٌ تخلُقها النفسُ باطنيًّا ، وتُعْنَى بالمخفِي لا الظَّاهر من الأشياء ؛ لأنَّ النفس طُبعتْ على الحُبِّ وجُبِلت ، كما أنَّ القلوبَ بيد من خلقها .
والعاشقُ الحُرُّ من رُوح الإله ، وهو شاعرٌ حتى وإن لم يكتب بيتًا أو سطرًا شعريَّا واحدًا ؛ لأن مُمارسة العشق وحدها هي المتن المفتوح اللانهائي اللامحدود للنصِّ .
والعشق ليس لهوًا أو تسليةً أو مجُونًا أو تزجية فراغٍ ، أو ملء وقتٍ ، وشغل رُوحٍ عابثة تتسلى ، لكنه عبادةٌ لها مناسكها ، وصلاةٌ لها طقوسها ، ووحدانيةٌ بين اثنين لا تثنيةَ فيها ، ولا تعدُّد . وهو نفاذ بصيرةٍ ، وارتقاءٌ رُوحيٌّ يعلو على ما هو أرضيٌّ عابر ، لأنه امتزاجٌ واتحاد بين رُوحيْن ، والتقاء بين نفسيْن حيث المُمَاثلة والتوحيد .
ولا ينمُو عشقٌ في زمنٍ يعمُّ فيه التزمُّت والتعسُّف والفتنة والاضطراب والمِحن والخطُوب والتكفير .
ألم يكُن شعرُ أهل الغزل خُصُوصًا ( قيس بن المُلوَّح – ليلى ، قيس بن ذُرَيح – لبنى ، جميل بن معمر – بُثينة ، كُثيْر بن عبد الرحمن بن الأسود بن عامر بن عويمر الخزاعي – عزَّة ) يُنْشَدُ في المسجد الحرام بمكَّة ، والمسجد النبوي في المدينة دون خوفٍ أو حرج ؟
ألم يكُن الصحابي عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن ( قبل الهجرة بثلاث سنين – 68 هجرية / 619 – 687 ميلادية ) ابن عم النبي محمد ، وحبر الأمة وفقيهها ، وإمام التفسير وتُرجمان القرآن يُؤثِر الإنصات إلى شعر عمر بن أبي ربيعة الغزلي على أن يستمع إلى مسائل نافع بن الأزرق (… – 65هـجرية /… – 685 ميلادية ) في الفقه والحديث وتفسير القرآن ؟
العشق الحق لا تقلُّب فيه ، ولا تغيُّر ، ولا غدر ، ولا خداع ، ولا دور للوشاية والشَّائعة والدسيسة والوقيعة ؛ ولا اهتزاز في الثقة التي ينبغي أن تكون متبادلة بين المحب والمحبوب .
والعشق لا يؤثِّر فيه زمانٌ ، ولا يمحوه بُعدٌ ، ولا يقترب منه سلوانٌ ، و لا تنقطع فيه أسباب الحُب بين العاشق والمعشُوق مهما تكُن الأحوال والظرُوف ، لأنَّ الحبل المتين مثلما هو مرتبطٌ بالدين ، كذلك هو مرتبطٌ بالحُب ( أدينُ بدينِ الحبِّ أنَّى توجَّهتْ, رَكائِبُهُ فالحُبُّ ديني وإيماني. – ابن عربي ) ؛ لأن المتانة قوةٌ وصلابةٌ وتماسُكٌ وثباتٌ وقُدرةٌ على البقاء ، والمتين كما نعرف هو ” اسم من أسماء الله الحسنى ، ومعناه : الشّديد القويّ ، المُتناهي في القوّة والقدرة ، الذي لا تتناقص قوّتُه ، ولا تضعف قدرتُه ” ، فالعشق – أساسًا – هو عودةٌ إلى الأصل ، حيث يجتمع المتفرِّق ، ويلتمُّ المتبعثر ، ويلتقي المتشتِّت بعد طول انقسامٍ ، وتتصل النفوسُ المقسُومة بعدما تجزَّأت ، وفي الأدبيات الإسلامية سنجد أن الحُب ما هو إلا ضربٌ من ضروب الجهاد ، ودائمًا ما أستعير مقولة الإمام وصاحب المذهب الظاهري الفقيه ابن حزم عندما كتب عن الحُب : ( ليسَ بمُنْكر في الديانة ولا بمَحْظور في الشَّريعة ، إذْ القلوب بيد الله عز وجل ).
والعشق الذي ينبع من مصدر النفس لا الجسم حيث التجربة الذاتية ، لا ينكرُهُ عُرفٌ ولا دينٌ ، وهو ابن العفوية والمُصادفة ، لا تكلُّف فيه ولا تقصُّد أو تعمُّد أو تزيُّد .
ولا ينمُو عشقٌ ويتكاثر في بلدٍ يحكمُه اقتتالٌ واستبدادٌ وتسلُّطٌ ونفاقٌ ، ويسيطر عليه حكمٌ فرديٌّ ظالمٌ قامعٌ ، يسجن الحواس السليمة ابنة البداهة والفطرة ؛ لأن الشعوب الحُرَّة الحارَّة تحمل الحُب جامحًا دافقًا كسيولٍ لا توقفها سدودُ البشر ، والعشق يزدهر مع الوضوح والكشف والصراحة ، حيث تختفي المواربة والمداراة ؛ لأنه يرقِّق الطبائع ، ويجعل النفوس خيِّرةً مانحة ، فليس لأهل الشرِّ مكان في كتاب الحب .
والعشق – الذي هو اتصالٌ لا انفصالٌ – حقيقة نعيشها ، ونعيها ، ونعانيها ، ونعنِيها ، لا يمكن نكرانها ، إذ هي واقعٌ معيشٌ ، يقع فيه المحظوظون في الدنيا .
وليس في العشق حساباتٌ أومعادلاتٌ أومقايضات أوترتيبات مسبقة ، أوتوازنات أو خوف و شك أو تفكير وأناة وروية واستبطاء ، إذْ يأتي بلا أوانٍ أو استئذانٍ حيث لا وقت له ، وليس فيه صيد أو قنص ( تكره المرأة أن تكون فريسة أو صيدًا لقنَّاصٍ ) ، ولا إيثار للنفس على ما سواها ، سادر جامح سادح ( سحاب شديد ثقيل ) يحمل خصبًا وغنىً ، لا يلقي بالًا بالقواعد ، تأتي فيه الغرائز في ذيل طائر العشق لا في عنقه .
ومن يكتب العشق لابد أن يعيشه ويعانيه ويلتذَّ به ، لا أن يذهب إلى المراجع والمصادر وما خطَّه الأسلاف من رسائل في العشق أو كُتبٍ ، أو أن يبحث ويستقصي من دون أن يقرأ نفسه كمُحبٍّ عارفٍ ؛ لأن العشق ابن التجربة ، وليس ابنًا للنظريات المبنية على النقل والشفاهة والاستقراء والاستقصاء والقراءة في الكُتب .
ولعل ابن حزم – الذي اتهمه خصُومه في الأندلس بالإلحاد في ظلِّ سيطرة الفقهاء وقتذاك ، حيث أوقعوا بينه وبين الحكام ووشوا به – كان من أوائل من نظَرُوا في العشق ، ونظَّرُوا له من قلب العشق وليس من خارجه ( بعد ابن داود الظاهري ، وأبي الفرج بن الجوزي ، وإخوان الصفا ، وابن المقفع ، والجاحظ ، والمسعودي ، وأبي إسحق الحصري القيرواني ) ، إذ اعتمد ابن حزم – الذي عاش في القرن الحادي عشر الميلادي – ( على دقة الملاحظة ، وعمق المشاهدة ، ورهافة التأمل من وجهة نظر نفسية واجتماعية ، والغوص ، والاستبطان ، والنَّظَر الروحي والعقلي المنطقي ) ، واستنبط أصولًا وقواعد هي ” أشبه بالعلم وأقرب إليه من شبهها بالأدب وقربها إليه ” كما يذكر طه حسين في كتابه ” ألوان ” دار المعارف 1958 ميلادية .
والعشقُ – كما أراه وأعرفه – هو أكثر سلوك بشري يمكن أن يهذِّب أخلاق المرء ، فمن لا حُب له لا أخلاق له ؛ لأنه ينبع من النفس وليس من جسدها .
وليس بمستبعدٍ أن يتحول الحُب الحسِّي إلى عشقٍ فريد ، ويحدث هذا إذا ما كان الجسدان يعرفان عبر الحواس طريقهما إلى الرُّوح ، ومن هنا يصل كل واحدٍ إلى نقطته التي يقصدها أو يطلبها أو يبتغيها من النفس ، لأن في الوفاق الجسدي اتحادٌ بين روحيْن .
*ahmad_shahawy@hotmail.com