إذا كُنتَ طفلا من قريةٍ صغيرةٍ نائيةٍ تقعُ على شمال السَّماء مثل قريتي كفر المياسرة ، التي يحضِنُها النيلُ من جهاتٍ ثلاث ، وكان سخيًّا معها في اتساعه ، وامتداده ، وعطفه ، وأيضًا في ابتلاعه كثيرين من أبنائه ، والغرباء الذين مرُّوا بالقريةِ ، وتَراهَنُوا على عبُوره بسلامٍ إلى الشاطئ الآخر ، فليس أمامك – والقرية بلا ماءٍ ولا كهرباء ، وليس فيها غير مدرسة ابتدائية – إلَّا القراءة المتنوِّعة ، وكتابة الشِّعر ، وصيد السَّمك ، وتربية القِطط ، ودُود القزِّ ، والحمام ، والأرانب ، ولعب كُرة القدم ، ومُمارسة التمثيل والغِناء ، ومُتابعة موالد المتصوِّفة في قريتي والقرى المجاورة ، والانخراط في الطريقة الشاذلية ، والتسابُق لحفظ القرآن ، والذهاب إلى المسجد لأداء الصَّلوات جماعةً ، والحُلم المستحيل بامرأة الخيال ، ومُراقبة النساء وهن يستحممن في النِّيل عارياتٍ ، وسماع الموسيقى والغناء ، والإنصات إلى قصص العفاريت والجِن والمارد ، والتوَّاه الذي يندَهُ الناسَ ، ويغرِقُهُم في النيل ، أو يسخِّرهم في أعمالٍ تؤذي وتُمْرِض المندوهين .
وقطف ثمار التوت ، والجميز ، وزراعة الأشجار حول جسُور غيطنا ، والبَشْنِين ( ثمرة زهرة اللوتس ، وهي مستديرة الشَّكل في حجم التفاحة ، وكانت لا تباعُ في أيامنا ، بل تُقايَض بالبصل ، في طقسٍ يؤدِّيه الأطفالُ مصحُوبًا بالغناء الخارج على لغة القوم ، وزهرة البَشْنِين – لمن لم يرها – تفتحُ بابَ روحها واسعًا إذا رأتِ الشَّمسَ ، ثم تغلق بابها ثانيةً إذا حلَّ الغرُوبُ ، وهو كما جاء في معاجم اللغة ” نبات عُشبيّ مائيّ من فصيلة النيلوفريَّات، ورقُهُ كبير مستدير وأزهاره جميلة يسمّيه المصريّون (عرائس النيل)، ينبت عادةً في الأنهار والمناقع ، وقد يُزْرع للزينة في الأحواض ” ) ، وفي القرية ليس أمامك سوى الراديو الذي كان نافذتي على الدنيا ، وأنا أذاكرُ دُروسي في الشِّتاء ، أو وأنا أستمتعُ بالتخلُّص من أسْر المدرسة في الصيف ، والصيف عندي يعني التفرُّغ التام للقراءةِ الحُرَّة خارج مُقرَّر المدرسة ، والالتزام بمنهجٍ مُحدَّد ؛ كي أواصلَ تفوُّقي الدراسي ، فالإنسان بطبيعة الحال عدو الالتزام الصَّارم ، والروتين اليومي المُعتاد ، ويكره التكرارَ والقيودَ والواجبَ المفرُوضَ عليه ، والأوامرَ التي تلزمه بفعل كذا وكذا ، وإلا سينال العقاب .
وأظنُّ أنَّ الشَّاعرَ الذي ولدَ معي ، أو ولِدَ فيَّ مبكِّرًا منذ سنواتي الأولى ، قد جعلني حادًّا ، وشفيفًا ، وعاطفيًّا ، وحالمًا ، وقلقًا لا يقبل بأنصاف الحلول .
وبقدر ما كنتُ أتابعُ المُراهنات على الغرِق في النِّيل أو النجاة من فِخَاخِ مائه وصمته المُريب ، فقد كنتُ طفلا خجُولا يحبُّ الاعتزالَ والمشيَ منفردًا في الطَّريق المُؤدِّي إلى غيطنا ، والتحدُّث إلى نفسي بصوتٍ مسمُوعٍ ، كأنَّني في حوارٍ ، وجدَلٍ ، ووعدٍ ، والتزامٍ معها ، فما تمنيتُ يومًا أن أكونَ طبيبًا أو مُهندسًا كعادة أحلام التلاميذِ في زماننا ، فقد كان حُلمي فقط أن أكونَ شاعرًا وكاتبًا ، ولم أر أقربَ من قسم الصَّحافة لألتحقَ به ؛ كي أكونَ قريبًا من الحَرْفِ الذي أقدِّسه ، خُصُوصًا من طفلٍ مثلي كان يحفظُ سُورة القلم ، ويتأمَّلها كثيرًا ” ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ” ، كما أنَّني كنتُ أحبُّ تلاوة الآيات التي ورَدَ فيها اسم القلم في القرآن ؛ كأنَّني أذكِّرُني بوعدي لنفسي بالشَّاعر والكاتب فيَّ : ” الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿٤ العلق﴾ ” ، ” وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ ﴿٤٤ آل عمران﴾ ” ، ” وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ ﴿٢٧ لقمان﴾ ” .
ولِدْتُ في مدينة دمياط ، لكنَّني لا أتذكَّر شيئًا من طفولتي في هذه المدينة ؛ لأنَّ أمِّي نوال عيسى ماتت وأنا في سن الرابعة ، ولأنَّ أبي مات بعدها بعشر سنواتٍ ولم يقُولا لي شيئًا ، أو يحكيا عن بيتِنا في ” باب الحرس ” بدمياط ، لكنَّ واحدًا من أقربائي أشار لي يومًا بأنَّ بيتنا كان هنا ، ومنذ ذلك الحين كلما سافرتُ إلى دمياط أتعمَّدُ المُرُور من الشَّارع الذي ولدتُ فيه ، كأنَّني أستعيدُ لحظة الميلاد وطقسها .
ودومًا أضبطُ الطفلَ الذي ما زالَ صاحيًا في نفسي ، وأراني لم ” أكبر ” ، وأنَّني طفلٌ في دهشته ، وسلوكه ، وضحكته ، وتعاملي مع ابني أحمد ، حينما نكُونُ معًا في مصر أو الولايات المتحدة الأمريكية حيث يعيشُ ، وأتأمَّل سلوكَهُ ، وأنصت إلى صوته الذي يشبُهني ، علَّني أكشفُ الجُزءَ الضَّائعَ ، أو المنسيَّ ، أو المفقودَ الذي لم يدلني عليه أحدٌ بسببِ الموتِ المبكِّر لأمِّي ، إذ بموتها ضاع جمالُ الطفولة ، ودُفِنِتْ براءتها .
*ahmad_shahawy@hotmail.com