وإذا كان الله في عُلاه قد أقسم بالقلم ، فلِمَ يكرهه الفقيه ؟
ولا أدري إن كان هذا الفقيه أو ذاك يعلم أن النبيَّ محمَّد ، كان يجعل فداء الأسير من كفَّار قريش ، ممَّن لم يكن لهم فداء ، أن يعلِّمُوا أولاد الأنصار الكتابـة , فيعلّم كلُّ واحدٍ عشرةً من المسلمين الكتابة ، أم لم يقرأ ذلك في الكتب التي درسها ، باعتباره أنه منذ تخرَّج في كليته أو معهده ، لم يعُد مشغُولا أو مهجُوسًا بالقراءة والكتابة ، إذْ صرنا نعيش عصر فقهاء وأئمة وشيوخ ليس لديهم إنتاجٌ علميٌّ منشورٌ ، حتى من درس منهم الماجستير والدكتوراه ، لم ينشر رسالته نشرًا عاما أو علميًّا.
ولعل الآية 282 من سورة البقرة : ( وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ) ، هي من أكثر الآيات التي تُبيِّن فضلَ الكتابة كما رآها الدين الإسلامي ، وكيف أن الخالق يذكرها صراحةً ، ويحثُّ على تعميمها ، ونشرها بين الخلق ، إذ هي في مقامٍ رفيعٍ ، ومرتبةٍ مقدسةٍ ، ولكن يبدو أن أكثر الفقهاء لا يعلمون ولا يعرفون ولا يريدون أن يعلموا أو يعرفوا ، وأنهم ناقصو إدراكٍ ووعي بفضل الكتابة على الناس حاضرًا ومستقبلا ، وهنا عليَّ أن أذهب إلى كتاب الحيوان للجاحظ (163 – 255 هـجرية = 780 – 869 ميلادية ) لنعرف أنه ” … لولا الكتب المُدونة ، والأخبار المخلدة ، والحكم المخطوطة التي تحصن الحساب وغير الحساب ؛ لبطل أكثر العلم ، ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر، ولمّا كان للناس مفزع إلى موضع استذكار، ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع ؛ إذ كنا قد علمنا أن مقدار حفظ الناس لعواجل حاجاتهم وأوائلها ؛ لا يبلغ من ذلك مبلغًا مذكورًا ولا يغني فيه غناءً محمودًا ، ولو كلف عامة من يطلب العلم ، ويصطنع الكتب ألا يزال حافظًا لِفَهْرَسَتِ كُتُبِهِ ؛ لأعجزه ذلك، ولكلف شططًا، ولشغله ذلك عن كثيرٍ مما هو أولى به ” .
……..
الفقيه والسلطان ، كلاهما يخشى الكِتَاب والكاتب ، يخافان الحبر ، والورق الأبيض – حتى – قبل أن يمتلىء فكرًا وإبداعًا ، يرتعبان من التأمُّل والتفكُّر والنظر بعمقٍ إلى الأشياء ، يكرهان القلم الذي به يسطُر الكاتب ويدوِّن ، حتى الفقيه نفسه صار يكره الآيات القرآنية التي تحضُّ على القراءة والكتابة ، فآية كهذه ( ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ ) ، لولا الحياء – إنْ كان هناك خجلٌ حقًّا – لحذفها الفقيه من القرآن ، ولولا الحياء – أيضًا – لأقصى هذه { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ{2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ{3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ{4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ{5} } ، على الرغم من أنها مفتتح الوحي ، وأول التنزيل على النبي محمد .
ولحذف كل الآيات التي تجعل الإنسان يُعْمِل عقله ، أو تدعو إلى الذهاب نحو الورقة والقلم ، أي التدوين ، وربما آية كهذه في قوله تعالى: ﴿ أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ ﴾ [الطور: 41]
تقضُّ مضجع الفقيه ، لأن ” يكتبون ” هنا تعني العلم ، وهو يريد للناس أن يعيشوا في خرافاته وخزعبلاته ومروياته المكذوبة وأحاديثه التي في أغلبها موضوعة أو ضعيفة أو بلا أسانيد ، وتحريفاته وانحيازاته لمذهبٍ ما مُتشدِّد ، ومحمول على النفي والإقصاء والإبعاد والحذف والشطب والتكفير واستحلال الدم .
وإذا كانت الكتابة ” صناعة شريفة ” – كما يقول ابن خلدون في مقدمته ، وهي أيضًا ” من خواص الإنسان التي تمَيَّز بها عن الحيوان ” و” تطلع على ما في الضمائر وتتأدَّى بها الأغراض إلى البلد البعيد، فتقضى الحاجات … ، ويطلع بها على العلوم والمعارف وصحف الأولين وما كتبوه من علومهم وأخبارهم ؛ فهي شريفة بهذه الوجوه والمنافع، وخروجُها من الإنسان من القوة إلى الفعل إنما يكون بالتعليم” ، فلماذا يخشاها الفقيه والسلطان ، ويسعيان إلى الحدِّ من حرية أصحابها ، وعدم نشر وانتشار كتبهم ، والاهتمام بها ، ودعمها ، والتوسُّع في صناعتها ، ومُحاربة أدواتها ، حيث يريان الكتاب خطرًا على الأمَّة ، على الرغم من أنه ينيرها ويُرشدها ويؤثِّر في الناس ، أكثر مما يؤثِّر الفقيه والذين معه أو على مذهبه المتزمِّت ، والسلطان يترك الحبل على الغارب للفقيه كي ينكِّل به ، ويستهزىء بما يكتب ، بل يترك كلاب السكك تنهش في لحمه ، وتعرِّض بسيرته إذا كان راحلا ، ولا أحد يفرِّق من أهل الجهل وبداوة العقل الأجرد المتصحر الناشف بين رائدٍ رمزٍ كنجيب محفوظ أو كاتبٍ ناشىءٍ ما زال يتعلَّم ويعي درس الكتابة .
يفرح الفقيه وسلطانه بحظر الكاتب الذي يعتبرانه طاعونًا مُعديًا سيفتك بالجميع ، ويحرقان كتبه بالمنع أو المصادرة أو المضايقة أو الحذف أو الشطب .
…….
لكن الشيخ والسلطان كليهما يتوجَّس من الكِتَاب ، ومن ثم لا يعود هناك إمكانية لحرية البحث العلمي ، ولا ضرورة إلى اجتهادٍ أو تأويلٍ ، حتى ولو كانت صادرةً عن أكبر العقُول ، وأكثرهم تنويرًا وفقهًا في العلم ، حتى أننا رأينا من يقول : ” ليست هناك حاجة إلى القراءة كثيرًا ، …” ، أو تمنع الإناث من قراءة الكتب ؛ لأن عقلها لن يستوعبها ، وخشية أن تفهمها غلطًا ، غير مهتمين بتربية العقل ، وصقل الرُّوح ، وتهذيب النفس ، وترويض طبيعة الإنسان ، حتى باتت كل دولةٍ من الدول العربية ، لديها قوائم بالكتب الممنُوعة والمُحظور تداولها في المكتبات ، وتختلف كل قائمة في هذه الدول حسب درجة التشدُّد وضيق الأفق والحظْر والمنع ، إلى الدرجة التي رأينا كتبًا تصدر تحت موضوع : الكتب التي حظر قراءتها فقهاء الإسلام ، وهو أمر مُخجل ومُزرٍ ومثير حقًّا للشفقة ، وتجاوز للمعقول ، وليس الهدف منه الحفاظ على الدين ، ولا حماية الأخلاق ، بل هو أمر ينبىء عن أننا أمة ستبقى في تخلفها وجهلها طويلا ، ولن تنهض إلا بحرية البحث والتعبير والاجتهاد من دُون شُروطٍ أو قيود ، أو رقابات على العقل .
فنحن نذهب إلى ما تخلَّت عنه أوروبا قبل خمسمئة سنة ، ونطبقه بحذافيره ، حيث كانت الكتب الممنوعة والمحظور بيعها وقتذاك مرتبة طبقا للحروف الأبجدية .
وما منعته أوروبا من كتب ، صار مُتاحًا ومُترجمًا إلى كل لغات الأرض ومن بينها العربية ، وهناك قائمة طويلة بالكتب الأوروبية التي حظرتها السلطات السياسية والدينية في أوروبا ، وباتت بين أيدي الناس ، وتباع علنًا في معارض الكتب ، بعد أن كانت محظورة أو تباع سرًّا ، أو تمت مصادرتها أو حرق نسخ منها .
وما نتيجة الاستبداد بشتَّى صوره إلا تكريس للجهل ، وتفشِّيه بين الناس ، وترك آثار سلبية سيئة لسنواتٍ طويلة على نفوس الناس وأرواحهم ، وتغييبهم عن المعرفة بالذات والآخر ، لأن من يمنع هو في الحقيقة يمارس القتل باحترافٍ ؛ لأنه جاهل مُعتَّق .
وكم من كتبٍ سقطت تحت سنابك خُيول الجهل الجامحة ، وضاعت ، ولم تصل إلينا ، ولعل محارق الكُتب ، أو رمي الكتب في الأنهار والبحار ، لهو أكبر دليل على استبداد السلطان ، ومن بعده أو معه مُؤازرًا ذلك الفقيه أو الأب أو القسيس ، حتى صار التحرُّر من الجهل والأمية من أسمى الآمال والأماني .